هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz


قال الله عز وجل :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت: 41)

أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من اتخذ من دون الله وليًا معتمدًا ، يلجأ إليه وقت الشدَّة ، ويحتمي بحماه ، وهو لا يجلب له نفعًا ، ولا يدفع عنه ضرًّا ، شبَّه فيه سبحانه حاله هذه بحال العنكبوت اتخذت بيتًا ؛ لتحتمي به من الأهوال والأخطار ، وتأوي إليه معتمدة على خيوطها القوية ، وهي لا تدري أن هذا البيت لا يقي حرًّا ، ولا يدفع بردًا ، ولا يجير آويًا ، ولا يريح ثاويًا .

فأولئك الذين اتخذوا من دون الله أولياء هم وأولياؤهم مثل.. والعنكبوت وبيتها الذي اتخذته من دون البيوت مثل آخر ، وبين المثلين وجه شبه ، دلت عليه كاف التشبيه ، وهو ضعف المعتمد . والفائدة هي التحذير من حمل النفس على التغرير بالعمل الذي يقوم على غير أساس .

وقد ورد هذا المثل في مطلع النصف الثاني من سورة العنكبوت ، وهي سورة مكية ، وموضوعها العقيدة في أصولها الكبرى : الوحدانية ، والرسالة ، والبعث والجزاء . ومحور السورة الكريمة يدور حول الإِيمان ، وسنة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا ؛ لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى المحنة والشدَّة ؛ ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطوَّلاً مفصلاً ، وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء- عليهم السلام- وأقوامهم الضالين الذين بهرتهم قوى المال والجاه والسلطان ، فظنوا لجهلهم أنها مانعتهم من عذاب الله تعالى .

وتبتدئ السورة بعد المطلع ﴿ الم ﴾ بهذا البدء الصريح :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴾(العنكبوت: 2) ؟ وتمضي السورة الكريمة تتحدث عن فريق من الناس يحسبون الإِيمان كلمةً تقال باللسان ، فإِذا نزلت بهم المحن والشدائد ، انتكسوا إِلى جحيم الضلال وارتدوا عن الإِسلام ، تخلصًا من عذاب الدنيا ؛ كأن عذاب الآخرة أهون من عذاب الدنيا :﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ .. ﴾(العنكبوت: 10) .

ثم تمضي السورة تتحدث عن محنة الأنبياء- عليهم السلام- وما لاقوه من شدائد وأهوال في سبيل تبليغ رسالة الله تعالى ، بدءًا بمحنة نوح ، ثم إِبراهيم ، ثم لوط ، ثم شعيب- عليهم السلام- وتتحدث عن بعض الأمم الطغاة ، والأفراد المتجبرين ؛ كعاد وثمود ، وقارون وهامان .. وغيرهم ، ثم تذكر بإجمال ما حلَّ بهم من الهلاك والدمار نتيجة ظلمهم وطغيانهم :﴿ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(لعنكبوت: 40) .

ثانيًا- وبعد هذا الاستعراض السريع لمحنة الأنبياء- عليهم السلام- ومصارع الكفار والمشركين من الطغاة المتجبرين في الأرض‏ والمفسدين ، وما ترك ذلك من آيات وعبر لمن جاء بعدهم ، يأتي هذا المثل ؛ ليؤكد لكل طاغية متجبر أنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله‏ تعالى ,‏ ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه‏ سبحانه وتعالى ,‏ وأن قوى أهل الشر ، مهما تعاظمت وتجبرت ‏، هي هزيلة‏ ضعيفة‏ واهنة ‏,‏ وأن اللجوء إليها والاحتماء بها ؛ كاحتماء العنكبوت ببيتها الواهن ‏‏,‏ والذي تصفه الآية الكريمة بأنه أوهن البيوت على الإطلاق :

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت: 41) .

فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء يلوذون إليهم ، ويحتمون بحماهم ، ويرجون نفعهم مَثَلُهُمْ في ذلك ؛ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بيتًا واهنًا ، فكانوا كالعنكبوت في ضعفها وصغر شأنها ؛ بل هم في يد القدرة القادرة ، وإزاء سلطان الله الغالب القاهر أقل من العنكبوت شأنًا ، وأضعف منها حيلة وحولاً . أما أولياؤهم الذين دخلوا في حماهم فهم أوهن من بيت العنكبوت ؛ لأن هذا له حقيقة وانتفاع في الجملة ، وأولئك لا حقيقة لهم ولا نفع ؛ لأنهم لا يدفعون عمَّن والاهم أذى ، ولا يردون عنه شرًا .

ويُعَدُّ هذا المثل من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك ، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده ، وهو كالمرآة التي يرى الناس عليها- وخاصة أولئك الذين غلظت طباعهم وتبلدت مشاعرهم- صورة تجسِّم ضعفَ أولئك الأولياء من دون الله عامة ، ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه من والاهم حين يلوذون إليهم ويحتمون بحماهم ، وترسم لذلك كله صورة مزدوجة ؛ فهم عناكب ضئيلة واهنة ، تأوي من حمى هؤلاء الأولياء إلى بيت كبيت العنكبوت أوهن وأضأل . فمن لم تحالفه قدرته وأقداره على النظر في الآيات والعبر التي تركها الله في بيوت الظالمين لأي سبب كان ، فإن حجة الله عز وجل لا تسقط عنه ؛ ذلك أنه سبحانه وتعالى قد بثها كاملة غير منقوصة في بيت العنكبوت .

ثالثًا- وفي تمثيل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء بالعنكبوت ، وتمثيل أوليائهم ببيت العنكبوت إعجاز من إعجاز القرآن ؛ فالعنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة تفرزها من غدد خاصة بذلك ، وتوزعها مغازلها الصغيرة ، فإذا لامست الهواء ، تماسكت وتصلَّبت في صورة خيوط برَّاقة . وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء أقاموا معتقدهم الفاسد الذي يعتقدونه ؛ ليلتمسوا الطمأنينة والأمن في ظله ؛ إنما أقاموه من تلك الأبخرة العفنة التي تتصاعد من مشاعرهم ، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة ، ويقوم عليها ذلك البناء الواهي المتداعي .

والمراد بالموصول في قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ كل من اتُّخِذ من دون الله تعالى مُتَّكلاً ومُعتَمدًا ؛ آلهة كان ذلك ، أو غير آلهة ؛ ولهذا عبَّر الله تعالى عنه بلفظ ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ ، ولم يعبِّر عنه بلفظ ﴿ آلهة ﴾ ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴾(مريم: 81) . وفي ذلك إشارة إلى إبطال الشرك الخفي ؛ فإن من عبد الله تعالى رياء لغيره فقد اتخذ وليًّا غيره ؛ فهذا مثله ﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾ .

وتنكير﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ للتنويع ، فيدل على أن الأولياء أنواع لا نوع واحد ، ومفرده : وليٌّ . وأصل الولي جعل الثاني بعد الأول من غير فصل ؛ من قولهم : هذا يلي ذاك . ويجري الوليُّ في الصفة على التابع والمتبوع ، والمُعَان والمُعين . تقول : الله تعالى وليُّ المؤمنين . أي : معينهم . والمؤمن وليُّ الله تعالى . أي : المُعَان بنصر الله عز وجل . ويقال : الشيطان وليُّ الكافرين والمنافقين ، والكافرون والمنافقون أولياء الشيطان . ويقال : الكافرون بعضهم أولياء بعض . وكذلك المؤمنون بعضهم أولياء بعض ؛ ولهذا لا يجوز قصر المراد من لفظ الأولياءِ على الآلهة فقط .

وقيل : الواو والتاء في ﴿ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ زائدتان‏ ؛‏ كما في طاغوت‏ ، وطالوت ،‏ فأصله على هذا : عنكب ، ووزنه : فعْلل ، ونونه أصلية . وقيل : نونه زائدة ، ووزنه : فنْعل ، فأصله على هذا : عكَب ، بمعنى : الشدَّة في السير ؛ فكأنه لشدة وثْبه لصيد الذباب ، أو لشدة حركته عند فراره ، أطلق عليه اسم : العنكبوت . وقد ذكر سيبويه القولين ، والمشهور منهما الأول . والذكر : عنكب ، ويجمع على : عناكب ، وعناكيب ، والأنثى منه : عنكبة ، وتجمع على : عنكبات . أما العنكبوت فيجمع على : عنكبوتات ، وهو حيوان صغير ، له ثمانية أرجل ، ويغزل خيوطًا تشبه الحرير . وأكثر ما تشتهر به العناكب هو غزلها لخيوط الشِّرَاك التي تستخدمها في صيد الحشرات ؛ لتتغذى بها . ولا تسلم الحشرات حتى الأضخم والأقوى منها من مخاطر شراكها . ولجميع العناكب أنياب ، ولمعظمها غدد سامة ، وتستخدم العناكب كلاً من هذه الأنياب والغدد في صيد الحيوانات ؛ لتتغذى بها . ويمكن للدغة العنكبوت أن تقتل الحشرات والحيوانات الصغيرة ، وقليل منها يلحق ضررًا بالإنسان ؛ وذلك لأن العنكبوت عادة لا يلدغ الإنسان ؛ إلا إذا أثاره بشدة .

ويعتقدُ كثيرٌ من الناس أن العناكب حشرات ؛ إلا أن العلماء يصنِّفونها على أنها من العنكبيات التي تختلف عن الحشرات في عدة أشياء . فالعناكب مثلًا لها ثمانية أرجل ، بينما للنحل والنمل والخنافس والحشرات الأخرى ستة أرجل فقط . وإضافة إلى ذلك تمتلك معظم الحشرات أجنحة ، وقرون استشعار ، وهذه غير موجودة في العناكب . وتشمل العنكبيات الأخرى : العقارب ، والحَّصَّاد ، والقُمّل ، والقُرَاد .

ويطلق لفظ ﴿ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ على الواحد والجمع‏ ,‏ والذكر والأنثى ‏؛‏ إلا أن الغالب في استعماله التأنيث . قال الدُّمَيْني في كتابه ( حياة الحيوان الكبرى ) :« العنكبوت : دويبة تنسج في الهواء ، وجمعها : عناكب . والذكر : عنكب ، وكنيته : أبو خَيْثمَة ، وأبو قَشْعَم . والأنثى : أم قَشْعَم . ووزنه : فَعْلَلوت . وهي قصار الأرجل ، كبار العيون ، للواحد ثمانية أرجل ، وست عيون . فإذا أراد صيد الذباب ، لَطَأ بالأرض وسكَن أطرافه وجمع نفسه ، ثم وثب على الذباب فلا يخطئه » .

وهذا النوع من العناكب يسمَّى : ليث عفرين . قال عنه الجاحظ في كتابه الحيوان :« إنه ضرب من العَنَاكب يصيد الذباب صَيْدَ الفُهُود ، وهو الذي يسمَّى : الليث ، وله ست عيون . فإذا رأى الذباب ، لَطَأ بالأرض ، وسكَن أطرافه ، فمتى وثب ، لم يخطىء » .

وجاء في لسان العرب لابن منظور :« العنكبوت : دُوَيْبَة معروفة تنسج في الهواء ، وعلى رأس البئر نَسْجًا رقيقًا مُهلْهلاً ، مؤنثة ، وربما ذكِّرت في الشعر . قال أبو النجم :

ممَّا يُسَدِّي العنكبوت ، إذ خلا

قال أبو حاتم : أظنه : إذ خلا المكان والموضع .

وأما قوله :

كأن نسج العنكبوت المُرْمِلِ

فإنما ذكَّره ؛ لأنه أراد النَّسْج ، ولكنه جرَّه على الجوار » .

يعني : أنه ذكَّر لفظ :( المُرْمِل ) ؛ لأنه صفة لـ( نَسْج ) . ولو كان صفة للعنكبوت ، لوجب تأنيثه . ‏

وقال الفراء :« العنكبوت أنثى ، وقد يذكرها بعض العرب ، وأنشد قوله :

على هُطَّالهم منهم بيوت ... كأن العنكبوت هو ابتناها

والتأنيث في العنكبوت أكثر ، والجمع : العنكبوتات ، وعناكب ، وعناكيب » .

أراد بـ( هطَّالهم ) : جبالَهم .

ومن استعمال لفظ العنكبوت جمعًا قول الطِّرِمَّاح :

ولو أن أمَّ العنكبوت بنت لهم ... مِظَلَّلتها يوم الندى لأكَنَّتِ

ومن استعماله مؤنَّثًا قول الفرزدق يهجو جريرًا :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المُنزَل

أراد : أن بيت جرير في العرب مثل بيت العنكبوت في الوهن .

وقال الأنباري في كتابه ( البُلْغَةُ في الفرق بين المؤنث والمذكر ) :« العنكبوت مؤنثة ، وقد يجوز فيها التذكير » .

لاحظ قوله :« وقد يجوز فيها التذكير » ، ثم قول الفرَّاء من قبله :« وقد يذكرها بعض العرب » ، وقول ابن منظور :« وربما ذكِّرت في الشعر » ، تجد أن الغالب في استعمال لفظ العنكبوت- في لغة العرب- هو التأنيث ، وأن تذكيره قليل ، ومختص بالشعر . وإذا كان كذلك ، فإنه من النادر الذي لا يقاس عليه .

ومما يدل- أيضًا- على أن لفظ ﴿ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ مؤنث قول العوام : عنكبوتة ؛ كقولهم : نملة ، ونحلة . والصواب : عنكبوت . وهذا ما أشار إليه صلاح الدين الصفدي في كتابه ( تصحيح التصحيف وتحرير التحريف ) بقوله : « يقولون : عنكبوتة . والصواب : عنكبوت » . واستشهد على ذلك بالآية الكريمة :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾ .

فثبت بما تقدم أن المراد بلفظ ﴿ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ في الآية الكريمة : التأنيث ، وليس فيما ذكرناه من أقوال ما يشير إلى أن المراد به التذكير . ولو كان كما قالوا ، لوجب أن يقال :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَ بَيْتًا ﴾ ، بتذكير الفعل ؛ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ﴾(البقرة: 249) ، فجاء بفعل ﴿ قَالَ ﴾ مذكَّرًا ؛ لأن فاعله يعود على ﴿ طَالُوتُ ﴾ ، وهو مذكر .

والظاهر من قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ أن المراد بالعنكبوت : النوع الذي ينسج بيته في الهواء ، ويصيد به الحشرات ، وأن جملة ﴿ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ صفة للعنكبوت . وهذا أحسن من قول من جعلها حالية ؛ لأن جعلها حالية لا يتأتَّى إلا على تقدير ( قد ) قبلها . وعليه يكون تقدير الكلام : كمثل العنكبوت قد اتخذت بيتًا . ولا يخفى ما فيه من مخالفة لنظم القرآن المحكم .

وقال تعالى :﴿ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ ، ولم يقل :( بَنَتْ بَيْتًا )- كما يقتضيه ظاهر اللفظ – لأن الفعل ( اتَّخَذَ ) لا يقال إلا في الشيء المصطفى المحبوب ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾(النساء: 125) ، وقوله :﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾(الفرقان: 27) . فالاتخاذ هو اقتناء واجتباء ، وهو افتعال من الأخذ . فإذا قلت : اتخذتُ كذا ، فمعناه : اصطفيته لنفسي واخترته لها . وأصل اتَّخَذَ : تَخِِذَ ، وتاؤه أصلية ، وليست مبدلة من شيء ، وعليه قول تعالى :﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾(الكهف: 77) ، وهو من الاتِّخاذ ؛ كالاتِّباع ، مصدر : اتَّبَعَ ، من : تَبِِعَ .

وقول الجوهري وغيره : إن اتَّخذ : افتعل ، من الأخذ ، وَهْمٌ لا دليل عليه ، والفرق بينهما : أن الأخذ هو حَوْزُ الشيء وتحصيلُه ، وأصله في العربية : الجمع ، ويكون ذلك بالتناول تارة ؛ كما في قول يوسف عليه السلام :﴿ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾(يوسف: 79) ، ويكون بالقهر تارة أخرى ؛ كما في قوله تعالى :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾(البقرة: 255) ، وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾(هود: 10) . أما الاتِّخاذ فهو أخذ الشئ لأمر يستمر فيه ؛ مثل الدار يتَّخذها صاحبها مسكنًا ، والدابة يتَّخذها مركبًا ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ﴾(مريم: 81) ، وقوله تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ﴾(النحل: 68) .

وأصل البيت : مأوى الإنسان في الليل ؛ لأنه يقال : بات . أي : أقام بالليل ، ثم قد يقال للمسكن : بيت ، من غير اعتبار الليل . وجمعه : أبيات ، وبيوت ، لكن البيوت بالمسكن أخصُّ ، والأبيات بالشعر أخصُّ . ويقع ذلك على المُتَّخَّذ من حجر ومدر ، وصوف ووبر ، وبه شُبِّه بيت الشَّعْر . وقد يطلق لفظ البيت ، ويراد به : امرأة الرجل وعياله . ويطلق على ما يبنى بناء اسم : البناء ، والبنيان . قال تعالى :﴿ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ﴾(الكهف: 21) . واستعمل البيت- هنا- فيما تنسجه العنكبوت ؛ لتلتقي فيه مع الذكر وقت السِّفاد ؛ ولتصطاد بخيوطه الحشرات التي تتغذى بها ، تشبيهًا له بما يبنيه الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة ، ودقة النسج . ويقال له : العُكْدُبَة .

وعبَّر تعالى عن اتخاذ العنكبوت بيتًا بصيغة النكرة ﴿ بَيْتًا ﴾ ؛ لأنه ثبت أن العنكبوت نادرًا ما تنسج لها بيتًا ؛ وإنما تظل مرتحلة متنقلة . ويوجد في العالم أكثر من ثلاثين ألف نوع من العناكب . وقد يصل عددها إلى مائة ألف نوع ، تتفاوت في أحجامها وأشكالها ، ونمط معيشتها . وتعيش في أي مكان يتوافر فيه غذاؤها . وهناك نوع من العناكب ، يمضي معظم حياته تحت الماء ، ويعيش نوع آخر منها بالقرب من قمة جبل إيفرست ، أعلى جبل في العالم ، ويعيش بعضها الآخر داخل المنازل ، ومخازن الحبوب ، ومختلف المباني . كما تعيش أنواع أخرى منها على الجدران خارج المباني وعلى واجهات وأطراف الأبواب والنوافذ . ومنها ما يعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ؛ كالعنكبوت الصيادة البنيَّة ، وتصيد الحشرات بنفسها . ويغلب عليها المعيشة الفردية والعدائية لبعضها بعضًا ، ولا يوجد منها إلا أنواع قليلة جدٌّا تعيش في جماعات .

وذهب بعض العلماء إلى أن في قوله تعالى :﴿ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ إشارة إلى حقيقة علمية مفادها : أن أنثى العنكبوت التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية هي التي تنسج البيت ، وليس الذكر ، وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن . وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد‏ أو الترميم‏ أو التوسعة‏ ,‏ فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة .‏

وهذه الحقيقة التي أنكرها أعداء الإعجاز العلمي من المسلمين ومن غير المسلمين ، وهاجموا القائلين بها ، قد ذكرها بعض علماء العرب ، وقرَّروها في كتبهم . قال ابن عبد ربه في كتابه ( العقد الفريد ) :« وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى ، وهي الخدرنق ، وولد العنكب ينسج ساعة يولد » . وقال الجاحظ في كتابه الحيوان :« ولد العنكبوت يقوى على النسج ساعة يولد ؛ وذلك من غير تلقين ، ولا تعليم . وأول ما يولد دودًا صغارًا ، ثم يتغير ويصير عنكبوتًا ، وهو يطاول في السِّفاد . ومنه ما هو كبير ، ونسجه رديء ، ومنه ما هو دقيق ، وهو يمدُّ السُّدى ، ثم يعمل اللَُحمة ، ويبتدىء من الوسط ، ويهيِّىء موضعًا لما يصيده ، يكون له كالخزانة ، والأنثى منه هي التي تنسج ، والذكر يحل وينقض » .

فالأنثى من العناكب هي التي تنسج البيت ، وإن كانت بعض الدراسات قد أشارت إلى أن ذكور العناكب تغزل الخيوط ، فإنها لم تغزلها ؛ لتبني بها بيتًا ؛ وإنما تغزلها لأغراض أخرى . جاء في الموسوعة العربية العالمية :« تغزل جميع العناكب الخيوط ، لكن بعض أنواعها لا تبني شراكًا . فعلى سبيل المثال يغزل العنكبوت المسلح خيطًا واحدًا في نهايته قطرة لزجة من الحرير ، فعندما تطير حشرة بالقرب منه ، يقذف العنكبوت هذا الخيط تجاهها ؛ لتلتصق الحشرة بطرفه اللزج » .

والذكر البالغ في عناكب الأرملة السوداء بعد أن يبنى خيوطًا حريرية ، يخرج من جسمه مادة التزاوج ، ويلصقها على هذا النسيج ، وعندما يرى الأنثى ، يبدأ بتحريك يديه ، وتبادله الأنثى الحركات نفسها ، ثم يلتقط بيديه مادة التزاوج ؛ ليضعها تحت جانبها ، ثم يتجه للجانب الآخر ؛ ليعمل نفس الشيء ، الذي يكرره عدة مرات .. وليس في ذلك كله ما يدل على أن ذكر العنكبوت يبني البيت كالأنثى ؛ كما ادَّعى ذلك بعض الحاقدين على الإسلام ، متَّخذًا من بعض الأقوال السابقة دليلاً يؤيِّد به ادعاءه ، ويثبت بذلك- كما قال- خطأ القرآن ، وقائله .. تعالى الله عن قوله علوًّا كبيرًا .

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإعجاز ، في هذه العبارة ، لم يكن في استعمال القرآن للفظ العنكبوت كمفرد يدل على الأنثى ؛ لأن القرآن الكريم - كما قالت الدكتورة بنت الشاطئ - يجرى على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية ؛ كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود ، فلم يقولوا في الواحد منها إلا نملة ، ونحلة ، ودودة ، وهو تأنيث لغوى ، لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي ؛ وإنما الإعجاز في الآية الكريمة هو في إسناد اتخاذ بيت العنكبوت إلى الأنثى دون الذكر في قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾ .

ومثله في ذلك إسناد اتِّخاذ بيت النحل إلى الأنثى دون الذكر؛ كما أفاد ذلك قوله تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ﴾(النحل: 68) . فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للأنثى دون الذكر ، وهي النحلة الشغالة التي تجمع الرحيق ، وتصنعه عسلاً ، بدليل قوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾(النحل: 69) . أما ذكور النحل فيوجد منها عدد قليل ، يلقح أحدها الملكة قبل أن تضع البيض ، ثم يموت .

رابعًا- ثم عقَّب تعالى على ذلك بقوله :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، فأخبر سبحانه أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت على الإطلاق . وهو جملة استئنافية خبرية ، مقيَّدة بالعبارة الشرطية :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، جيء بها لبيان صفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه .

وأيُّ معنًى أبلغ من هذا المعنى الذي أكَّده الله تعالى من ستة أوجه ؟ فأدخل ﴿ إِنَّ ﴾ التي تفيد معنى التوكيد ، وأتى بـ﴿ أَوْهَنَ ﴾ ، وهو صفة تفضيل مبنيَّة من الوهن ، وأضافه إلى الجمع ﴿ الْبُيُوتِ ﴾ ، وعرف الجمع باللام التي تفيد معنى الاستغراق ، وأتى في خبر ﴿ إِنَّ ﴾ باللام ﴿ لَبَيْتُ ﴾ ، فأفاد بذلك أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتًا ، بيتًا هو بيت العنكبوت . أي : لا بيت أوهن منه .

ولم تزل هذه الآية محيِّرة للعلماء والباحثين- قديمًا وحديثًا- فالقرآن الكريم قد أخبر على سبيل التوكيد أن أوهن البيوت على الإطلاق هو بيت العنكبوت ، ثم قيَّد هذا الخبر بقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . والعلم الحديث قد أثبت أن بيت العنكبوت منسوج من أقوى الخيوط التي تستطيع مقاومة الرياح العاتية ، ويمسك في نسجه فرائس العنكبوت من الحشرات التي هي أكبر منه دون أن يَتخَرَّق . وخيوطه دقيقة جدًا ،‏ يبلغ سمك الخيط الواحد منها في المتوسط واحدًا من المليون من البوصة المربعة ‏,‏ أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان ،‏ ويتمدد إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع ، وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة ، ومن الألمنيوم بتسع وعشرين مرة ، ولا يفوقه قوة سوى الكوارتز المصهور ، وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل للبوصة المربعة . فإذا قُدِّر وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت ، فيُمْكِنه حَملَ طائرة ركاب كبيرة بكل سهولة ؛ ولذلك أطلق عليه العلماء اسم ( الفولاذ الحيوي ) ، أو ( الفولاذ البيولوجي ) ، أو ( البيوصلب ) . وهذه ‏الحقيقة يستطيع الإنسان أن يكتشفها بنفسه ، حيث يمكنه بسهولة إزاحة بيت العنكبوت بسبب وزنه ‏الخفيف ، ولكن يصعب عليه قطعه ، أو تغيير شكله الهندسي الدقيق !

قال الدكتور محمد الفار أستاذ ورئيس شعبة الكيمياء الحيوية بعلوم المنصورة في مقال له نشر في جريدة الأهرام :« نجح العلماء أخيرًا في استخدام طرق الهندسة الوراثية لإنتاج خيوط العنكبوت عن طريق جينات مستخرجة من العنكبوت نفسه ، وهي أقوى من خيوط الحرير ؛‏ ولذلك فإن هذه الطريقة ستتيح لهم التوسع في استخدام تلك الخيوط العنكبوتية لصناعة سترات واقية من الرصاص من نسيجه‏ ,‏ وخيوط جراحية بمواصفات جيدة‏ » .

فهل كان القرآن الكريم حين أخبر أن بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق يجهل هذه الحقائق التي كشف عنها العلم مؤخرًا عن طبيعة هذا الخيط الذي نسج منه بيت العنكبوت ؟ وهل كان الكفار والمشركون يجهلون أيام نزول القرآن الكريم أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت ، أم كانوا يعلمون ذلك ؟ وإذا كانوا يعلمون ، فلم نفى الله سبحانه وتعالى عنهم علم ذلك ؟

أما السؤال الأول فلا نجد له في كتب التفسير جوابًا . وأما السؤال الثاني فأجابوا عنه بأنهم كانوا يعلمون أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت ، وأنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت ؛ وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا . فلو علموا ذلك ، ما فعلوه ؛ ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقوة ، فكان الأمر بخلاف ما ظنوا .

ولهذا نجد علماء التفسير يذهبون إلى أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ جملة حالية ؛ لأنه من تتمة التشبيه . أو جملة اعتراضية بين قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾ ، وقوله :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . ومنهم من ذهب إلى أن كونه جملة اعتراضية أقرب . وعليه يكون تقدير الكلام هكذا :

( كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا- لو كانوا يعلمون- وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ) .

أما ﴿ لَوْ ﴾ فهي- كما قالوا- أداة شرطية ، قد حذِف جوابها ، تقديره : لو كانوا يعلمون شيئًا من الأشياء ، لعلموا أن هذا مثلهم . أو : لو كانوا يعلمون أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، لما اتخذوه دينًا . أو : لو كانوا يعلمون وهن الأوثان ، لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى .

وقد سبق أن ذكرنا أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ جملة استئنافية ، جيء بها لبيان صفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه ، وهي جملة خبرية مقيَّدة بالعبارة الشرطية ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . وهذه العبارة الشرطية تنفي صراحة علمهم بأن أوهن بيت على الإطلاق هو بيت العنكبوت . أما نفي علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا فهو مبنيٌّ على نفي علمهم بأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، ويدل عليه تشبيه الأول بالثاني . كما يدل عليه أيضًا أن الله تعالى قال :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ، فأتى بأداة الشرط :﴿ لَوْ ﴾ المتضمنة معنى التمني ؛ لينفي بذلك علمهم مع تمني حصول ذلك العلم منهم . ونحو ذلك قوله تعالى :

﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت: 64) .

لاحظ كيف جاء قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ مؤكَّدًا بـ﴿ إِنَّ ﴾ ، وباللام في خبرها ﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ ، ثم قيِّد ذلك بالعبارة الشرطية التي تنفي علمهم بذلك ، مع تمني حصول ذلك العلم منهم ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ولكن هيهات ، هيهات أن يعلموا ذلك . ولو جاء من يُعلِمُهم به ، لظلوا في ظلمات جهلهم غارقين .. ومثل هذا الأسلوب في القرآن كثير لمن أراد التأمل والتدبر .

وإذ ثبت بما تقدم أنهم كانوا لا يعلمون أن بيت العنكبوت أوهن البيوت- كما أخبر الله تعالى عنهم- فهل كانوا يجهلون طبيعة هذا البيت ، من حيث قوة نسجه ؟ وهل كان القرآن الكريم يجهل ذلك أيضًا ؟

أما الجواب عن السؤال الأول فقد روي عن سكان جزر السَّلَمون أنهم كانوا يقومون قديمًا بصنع شباك صيد الأسماك من خيوط العنكبوت .. فإذا ثبت ذلك عنهم ، فمن أين أتاهم علم ذلك ، وكيف علموا به ؟!

وأما الجواب عن السؤال الثاني فنقول : لو كان القرآن الكريم يجهل طبيعة بيت العنكبوت ، لما أخبر عنه على سبيل التوكيد بأنه أوهن بيت على الإطلاق . ويدل على ذلك أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ لا يكون إلا جوابًا عن جحود جاحد . فهو جواب من قال : ما بيت العنكبوت بأوهن البيوت . ألا ترى أن قولك : إن زيدًا لعالم ، هو جواب من قال : ما زيد بعالم . وإن قولك : إن محمدًا لرسول الله ، هو جواب من قال : ما محمد برسول الله .

ومما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم ليس هو كتاب علم حتى يفصل القول في شرح هذه الحقائق ؛ وإنما هو كتاب هداية قبل كل شيء ؛ ولهذا يكتفي بالإشارة إليها إشارات فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر ، ولا يخفى ذلك إلا على من طمس الله على بصره ، وأعمى بصيرته ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج: 46) ، فأنَّى لأولئك الصم البكم العمي أن يفقهوا كلام الله جل وعلا ؟!

والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا هو : كيف يكون بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق ، وهو منسوج من أقوى الخيوط على الإطلاق وأكثرها مرونة ؟ وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى ‏من الوهن ، والحد الأقصى من القوة والمرونة ؟!

وأول ما ينبغي الإشارة إليه قبل الإجابة عن ذلك هو أن الآية الكريمة نصَّت على وهن بيت العنكبوت ، لا على وهن الخيط الذي نسج منه . فلم يقل سبحانه :( وإن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت } ؛ وإنما قال :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ ، وهي إشارة دقيقة ، لا تخفى إلا على الجاهلين من أولئك الحاقدين الذين اتهموا القرآن الكريم بالخطأ ، وطعنوا في إعجازه ، حين زعموا زورًا وبهتانًا أن العلم يقول عن خيوط العنكبوت : إنها قوية ، والقرآن يقول عنها : إنها ضعيفة ؛ لأن القرآن ، وكاتب القرآن لا يعرف الفولاذ ، ولا يدرك طبيعة خيط العنكبوت :﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾

وأنت إذا تأملت الآية الكريمة حق تأملها على ضوء ما تقدم ، تبيَّن لك أن المعنى المراد منها : إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، رغم قوة ومتانة ومرونة خيوطه التي نسج منها .. فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيوط العنكبوت ؛ وإنما هو في البيت الذي نسجت منه تلك الخيوط . فالخيوط قويه ، والبيوت التي تصنع منها ضعيفة واهية ، يسهل الإطاحة بها رغم قوة خيوطها .

قال الدكتور محمد الفار في مقاله الذي أشرنا إليه سابقًا :« والعبرة والعظة والإعجاز في هذا التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء ‏,‏ فبيت العنكبوت بخيوطه القوية‏ ,‏ يسهل إطاحته ‏، ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى ,‏ وبمنهج آخر ‏,‏ فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا ‏,‏ وشديدًا في متانته ، ويصلح لصد الرصاص‏ .. وللتوضيح‏ ,‏ فالجرافيت والألماس‏ ,‏ كلاهما من الكربون‏ ,‏ وعلى الرغم من ذلك فلهما خواص فيزيائية وشكلية متضادة تمامًا ؛ فالأول‏ أسود ولين ومعتم وضعيف ، ويسهل كسره‏ .‏ أما الثاني فهو شفاف ونقي ، ومن أصلد وأقوى المعادن ‏.‏ والأول يتحول للثاني تحت ظروف قاسية من الضغط والحرارة‏ ،‏ إذا تغيرت الظروف حوله .. فالعبرة بالمنهج والبيئة‏ ،‏ وسبحان الله ».‏

وقال تعالى :﴿ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾ ، ولم يقل :( أضعف البيوت ) ؛ وذلك لأن الضعف هو من فعل الله تعالى . يقال : خلقه الله ضعيفًا ؛ كما يقال : خلقه قويًا . ويكون ذلك في الجسد والرأي والعقل . قال تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾(الروم: 54) . وقال تعالى :﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾(النساء: 28) .. وأما الوهن فهو من فعل المخلوق ، وهو أن يفعل فعل الضعيف . يقال : وهن في الأمر يهن وهنًا ، وهو واهن ، إذا أخذ فيه أخذ الضعيف . والأمر موهون ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾(آل عمران: 139) . أي : لا تفعلوا أفعال الضعفاء ، وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إياه لكم .

ويدل على صحة ما ذكرنا أنه لا يقال : خلقه الله واهنًا ؛ كما يقال : خلقه الله ضعيفًا . وقيل : الوهن : الضعف في العمل والأمر ، وكذلك في العظم ونحوه ؛ كما في قوله تعالى :﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾(مريم: 4) . ويجوز أن يقال : الوهن هو انكسار الحد والخوف ونحوه ، والضعف نقصان القوة . ويدل عليه قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين :﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾(آل عمران: 146) ، إشارة إلى نفي الحالتين عنهم في الجهاد . وقيل : الوهن هو ضعف من حيث الخَلْق ، والخُلُق . ويتلخص من ذلك كله : أن الوهن هو من فعل المخلوق ، ويكون مادِّيَّا ، ومعنويًّا . وهذا ما ينبغي أن يفهم من الوهن المنصوص عليه في الآية الكريمة .

أما وهن بيت العنكبوت من الناحية المادية فلأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك‏‏ مع بعضها البعض تاركة مسافاتٍ بيْنِيَّة كبيرة في أغلب الأحيان‏ ؛ ولذلك فهو لا يقي حرًّا‏ ولا بردًا‏ ,‏ ولا يحدث ظلاً كافيًا‏ ,‏ ولا يقي من مطر هاطل‏ ,‏ ولا من رياح عاصفة‏ ,‏ ولا من أخطار محدقة‏ ؛‏ ولهذا يغزل العنكبوت خيطًا من الحرير يُسمَّى : خيط الجذب ، وخيط الحياة ؛ وذلك لأنه يستعمله- غالبًا- في الهروب من الأعداء . فإذا أحس العنكبوت بخطر يهدد نسيجه ، فإنه يهرب من النسيج بوساطة خيط الجذب ؛ ليختبئ بين الأعشاب . أو يبقى متعلقًا به في الهواء ، حتى يزول الخطر ، ثم يعود مرة أخرى إلى نسيجه عبر خيط الجذب .

ومن أخصِّ خصائص البيت وأوصافه أنه مأوى لصاحبه ، يقيه من برد الشتاء وحر الصيف ، ويحميه من أذى الكائنات التي هي أقوى منه ، وهذا كله لا يتوفر في بيت العنكبوت على الرغم من الإعجاز في بنائه . ولا يخفى ذلك إلا على جاهل ، ولا ينكره إلا مكابر ، أو حاقد .

وأما وهنه من الناحية المعنوية فلأنه بيت محروم من معاني السكن والمودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد‏ ؛‏ ولهذا عبَّر القرآن الكريم عنه بالبيت ، لا بالمسكن ؛ وذلك خلافًا لبيت النمل الذي عبَّر عنه بالمسكن ؛ كما في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾(النمل: 18) . وإنما سمِّيَ البيت مسكنًا ؛ لأنه سكن لصاحبه ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾(النحل: 80) ، ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾(الروم: 21) .

وقد ثبت- مما تقدم- أن بيت العنكبوت لا يجير آويًا ، ولا يريح ثاويًا ؛ لأنه بيت لا طمأنينة فيه ، لا لأصحابه ، ولا لزواره ؛ لأنه بيت لم يعَدَّ في الأصل للسكن ؛ وإنما أُعدَِّ ليكون مصيدة ، يقع في حبائلها اللزجة كل من فكر بزيارته من الحشرات الطائرة المخدوعة . جاء في الموسوعة العربية العالمية:« وتقبع بعض أنواع العناكب غازلة النسيج الدائري في وسط النسيج مترقبة لفرائسها ، بينما تلصق أنواع أخرى خيطًا إشاريًّا وسط النسيج ، ويختبىء العنكبوت في عشه قرب النسيج ، ممسكًا بالخيط الإشاري . وعندما تسقط حشرة في النسيج ، يهتز الخيط الإشاري منبهًا العنكبوت الذي يندفع إلى خارج عشه بسرعة كبيرة للإمساك بالحشرة . وتنسج تلك العناكب نسيجًا دائريًا كل ليلة ، يستغرق بناؤه ما يقرب من ساعة ، وتأكل النسيج القديم للمحافظة على الحرير ، بينما تصلح أنواع أخرى من تلك العناكب ، أو تغير أي جزء تالف من نسيجها » .

ومن العناكب ما يسمَّى بالعنكبوت الصيادة الرمادية ، وهي من العناكب التي تخرج ليلاً للصيد ؛ كما تفعل الشَبَث والعقرب . أما الأنواع الأخرى من العناكب فهي لا تبرح مكانها ، ولكنها تنتظر وتترقب ؛ لكي يقع صيدها في شباكها التي تنسجها ، وتعيش بالقرب منها . أما العنكبوت الصيادة البنيَّة فتعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ، وتعيش حياة انفرادية ، وتصيد بنفسها الحشرات ، ولا تتردد في أكل العناكب التي من نفس جنسها ، وهي شرسة الطباع ، قوية الافتراس . وعندما تصيد فريستها ، تقطعها بعض القطع ، أو تفتح فيها فتحات ، ثم تمتص السوائل التي بداخلها ؛ لتتركها ناشفة من الداخل .

ومن اللافت في موضوع العناكب كلها أن الحشرات الأخرى لا تسلم من شرها ساعة من ليل أو نهار ، فهي دائمة الترصد لفرائسها في ورديات نهارية وليلية . وتبدأ العناكب الليلية صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية ، وقد ابتكرت العناكب طرقًا مختلفةً لاقتناص فرائسها ، فبعضها ينقض على فريسته انقضاضًا مباشرًا . وأشهر طرق الاقتناص لديها يتم عن طريق ما تنصبه من شباك ، تتخايل للفرائس ؛ وكأنها زينة تلمع أمامها ، فإذا ما اقتربت منها ، وقعت فيها وكانت سببًا في هلاكها !!

وبعد اكتمال نمو ذكر العنكبوت ، يبدأ في البحث عن شريكة للتزاوج ، وأحيانا يفقد الذكر حياته ، إذا ما اعتقدت الأنثى أنه فريسة ، فتلتهمه . وتفضل ذكور معظم العناكب القيام بأنشطة الاستمالة التي يتم من خلالها الكشف عن هويتها لجذب الإناث . وبعضها الآخر يقوم بهز خيوط نسيج الأنثى ، بينما يقوم بعض ذكور العناكب الصيَّادة بتحريك أرجله وأجسامه في رقصة استمالة غير عادية . وتستخدم ذكور العناكب القافزة الشعر الملون على أرجلها للفت انتباه الأنثى ؛ كما تقدم ذكور عناكب النسيج الحاضن هدية للأنثى قبل الزواج ، تتمثل في ذبابة كان قد اصطادها .

ولا تقوم الأنثى بقتل الذكر وأكله بعد مجامعته- كما كان يعتقد سابقًا- فقد أثبتت إحدى الدراسات أن العناكب تأكل الذكر الذي يبدو شكله غريبًا عليها ، إذا ما حاول الاقتراب منها ، ولا تستجيب إلا للذكر الذي يبدو مألوفًا لديها . ومع ذلك فكثيرًا ما يعمد الذكر إلى الهروب بعد أن يلقح أنثاه خوفًا على نفسه من افتراس الأنثى له ؛ لأنها أكبر منه حجمًا ، وأكثر شراسة‏ .‏

وتقوم إناث كثير من أنواع العناكب بوضع بيضها في كيس أبيض ورَقيٍّ تصنعه من خيوطها ، وتجره خلفها أينما ذهبت . وفي بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها . وفي بعض الأنواع الأخرى تمكث الأنثى فوق البيض حتى يفقس داخل الكيس . وعندما يفقس البيض ، تخرج صغار العنكبوت ،‏ فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض‏ ,‏ فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام ، أو من أجل المكان ، أو من أجلهما معًا ، فيقتل الأخ أخاه وأخته ‏,‏ وتقتل الأخت أختها وأخاها حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العناكب التي تنسلخ من جلدها ‏,‏ وتمزق جدار كيس البيض ؛ لتخرج الواحدة تلو الأخرى ‏,‏ والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسة ,‏ وينتشر الجميع في البيئة المحيطة ، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها‏ ,‏ ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العناكب ‏.‏ ومن ينجو منها ، يكرر نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية‏ وانعدامًا لأواصر القربى ‏. وقد يحدث أن تتقاتل أنثيان مع بعضهما البعض ، فتحمل القاتلة صغار المقتولة على ظهرها ، أو أن الصغار تترك الأم المقتولة ، وتتسلق ظهر الأنثى القاتلة ، وتظل متعلقة بها إلى أن تكبر ، وتصبح قادرة على العيش وحدها .

قالت الدكتورة هاموند :« العنكبوت يأكل بعضه البعض . إذا ما وضعت عنكبوتين في قفص ، فسيأكل واحد منهما الآخر » . وقال الدكتور جفري تيرنر رئيس شركة نكسيا للتكنولوجيا الحيوية :« إن الناس بدؤوا يتساءلون عن إمكانية إنتاج المادة البروتينية تمامًا ؛ كما يتم مع دودة القز لإنتاج الحرير ؛ لكن المشكلة هي أن العناكب من الحشرات التي يصعب السيطرة عليها ، وأقلمتها على الاستزراع ، وهي حشرات فردية وعدوانية » .

ويضيف الدكتور جفري قائلاً :« عندما تضع عشرة آلاف منها في حجرة واحدة ، ستجد بعد فترة أن واحدًا قبيحًا قويًّا منها هو الذي يبقي ، ويموت الكل من شدة المنافسة والصراع فيما بينها » . وقد سبق أن ذكرنا أن العنكبوت الصيادة البنِّيَّة تعيش في جحور تحفرها بنفسها ، أو تختبئ في الشقوق الصخرية ، وتعيش حياة انفرادية ، وتصيد الحشرات بنفسها ، ولا تتردد في أكل العناكب التي من نفس جنسها ، وهي شرسة الطباع قوية الافتراس . وفي بعض أنواع العناكب تلتهم الأنثى صغارها دون رحمة .

هذه هي العناكب ، وهذا هو بيتها ، يبدو لمن تأمله أدنى تأمل أنه أوهن البيوت ؛ كما وصفه القرآن الكريم . بيت يفتقد العلاقات الأسرية ، والعاطفية الحميمة ، ويقوم على المصالح والمنافع المادية الدنيوية المؤقتة . فإذا انتفت المصالح , وانتهت المنافع , انقلب إلى مذبحة ، وخيم عليه الخوف والتربص والقتل . وحتى بالمقارنة مع عالم الحشرات يعد بيت العنكبوت أوهن ‏البيوت من الناحية الأسرية ، وأكثرها أنانية وشراسة . ثم بعد هذا كله نجد من أعداء الإسلام والموالين لهم من يتشدق ويقول : بيت العنكبوت من أقوى البيوت ، والقرآن مخطئ حين وصفه بأنه أوهن البيوت . وهم يقولون ذلك مع اعترافهم بأن بيت العنكبوت مصيدة ، يتصيد الفرائس من خلاله ، ويعيش عليها . ولم يعلموا أن كونه مصيدة يوقع الحشرات في حبائله اللزجة التي تتخايل لها ، وكأنها زينة تلمع أمامها ، يكفي لأن يجعل من هذا البيت أوهى البيوت على الإطلاق من ‏الناحية الاجتماعية والأخلاقية ، كما لم يعلموا أيضًا أن هذا الوصف الدقيق لهذا البيت ؛ إنما جاء في سياق ضرب المثل لمن يتخذ من دون الله ‏أولياء ، حيث الصلات واهية ، والروابط متقطعة ، والغدر وارد في أي لحظة !!‏

هذه هي الحقيقة التي غفل عنها أولئك الذين اتخذوا من أعداء الله أولياء من دون الله ، يستعينون بهم ، ويلوذون إليهم في رغَب وفي رهَب ، ويتوجهون إليهم بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونهم ، ويفزعون منهم , ويترضونهم ؛ ليكفوا عن أنفسهم أذاهم , أو يضمنوا لأنفسهم حماهم ، فكان مثلهم في ذلك ﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ .

وإنه لتصوير عجيب صادق لحقيقة هؤلاء العناكب ، وحقيقة أوليائهم الذين يلوذون إليهم ، ويحتمون بحماهم في هذا الوجود ، تلك الحقيقة التي غفل عنها أكثر الناس ، فساء تقديرهم لجميع القيم , وفسد تصورهم لجميع الارتباطات , واختلت في أيديهم جميع الموازين ، فما عرفوا إلى أين يتوجهون ، ماذا يأخذون ، وماذا يدعون ? وعندئذ خدعتهم تلك القوى الظاهرة التي يتمتع بها أولياؤهم ، فداروا حولها , وتهافتوا عليها ؛ كما يدور الفراش على المصباح , ويتهافت على النار ، ونسَوْا القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتوجهها ، وتسخرها كما تريد ، وحيثما تريد ، ونسَوْا أن الالتجاء إلى تلك القوى ؛ سواء كانت في أيدي الأفراد أو الجماعات أو الدول ؛ كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت ، وأنه ليس هنالك من حماية إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .

فهم من جهة عناكب واهية ، ليس لها من قوة سوى خيوطها القوية التي تبني منها بيتها الواهن ، وهم من جهة أخرى حشرات حقيرة ، خدعتها تلك الخيوط القوية البراقة ، فوقعت في شراكها ، وكانت سببًا في هلاكها . أما أولياؤهم فهم بما امتلكوا من قوى أشبه ببيت العنكبوت وخيوطه التي نسج منها ؛ لأنهم رغم كل ما يمتلكون من قوى ، لا يستطيعون حماية أنفسهم من الأخطار التي تحدق بهم ، وتهدد أمنهم في كل حين . وإذا كانوا لا يستطيعون حماية أنفسهم ، فمن الأولى ألا يستطيعوا حماية من اتخذهم أولياء من دون الله جل وعلا .

وفي ذلك تأكيد على أن قوة الله وحدها هي القوة ، وولاية الله وحدها هي الولاية ، وما عدا ذلك فهو واهن ضئيل هزيل ، مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .. إنها العنكبوت ، وما تملك من القوى ، ليست سوى خيوط العنكبوت ، ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ . ومن أراد أن يتأكَّد من هذه الحقيقة ، فلينظر إلى أمريكا ، وإسرائيل ، ومن والاهما . وسيعلم حينذ أن العبرة ليست في قوة خيوط العنكبوت ومتانتها ؛ وإنما العبرة في قوة بناء البيت من الناحية المادية والمعنوية : الاجتماعية والأخلاقية ، وليتأمل بعد ذلك قول الله تعالى عقب هذا المثل :﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ ، لعله يعقل المراد من هذه الأمثال ، ويدرك ما فيها من أسرار ، تخفى على الكفرة الجاهلين ، والملاحدة المتكبرين .. اللهم اجعلنا من الذين يعقلون أمثالك ، ويفقهون كلامك ، ويدركون أسرار بيانك ، والحمد لله رب العالمين

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
يسلمو كتير للموضوع
كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Icon_biggrin

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
شكرا ياغالي علي التوبيك وجزاك الله كل خير

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
جزاكم الله خيرا شكرا على المرور الحلو
*****
******
*******
النجم الثاقب يرحب بكم
http://altarekk.ahladalil.com :cheers: ::ss554dd::

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
شكــرا لكـ يا أخــى الغالــى ؛؛ باركـ الله فيكـ gg444g


::ss554dd::

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
ردكم نثر العطر في الموضوع وقراءتم له زادته جمالا

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
شكرآ لكـ اخى الغالى ،، ادام الله نهر ابداعاتكــ gg444g

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
شـكرالك

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
شكرا على المرور بارك الله فيكم وأثابكم من فضله

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
مشكوووووووووووووووور

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
جزاك الله كل خير

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
مروركم نور الموضوع وردكم أضاف عليه بهجة

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا 54045245h

شكرا لك موضوع مميز ورائع



بارك الله فيك وجزاك الله كل خير



تقبل مروري وتحياتي اليك

كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا 886773

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتكـ What a Face

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيك اخي علي الموضوع

وجعله الله في ميزان حسناتكم

descriptionكمثل العنكبوت اتخذت بيتًا Emptyرد: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا

more_horiz
كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا 13091320481



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي