تذكير الفعل مع الرسل وتأنيثه
سألني أحدهم عن رأيي في قول الدكتور فاضل السامرائي : (( وقد يكون التأنيث للكثرة والتذكير للقلة ، كما في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) ، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾(يوسف: 30) )) .
ثم جوابه عن ذلك بقوله : (( ونقول : إن هذا الأمر جائز من حيث الجواز اللغوي ، وليس في هذا شيء ؛ لكن السؤال يبقى : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ونأخذ قوله تعالى ﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾(البقرة: 87) بتذكير فعل ( جاءكم ) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾(الأعراف: 43) بتأنيث فعل ( جاءت ) . ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ، فجاء بالفعل مؤنّثًا للدلالة على الكثرة . أما في الآية الأولى فالخطاب لبني إسرائيل ، ولزمرة منهم ، وفي حالة معينة أيضًا ، وهذا يدل على القلة ، فجاء بالفعل مذكّرًا )) .
ــــــــــــــــــ
أولاً- هذا القول للدكتور السامرائي جواب منه عن سؤال وجِّه إليه في إحدى لمساته البيانية ، ومن يقرأ للدكتور السامرائي لمساته البيانية ، أو يسمعه وهو يجيب عن أسئلة المشاهدين في برنامج لمسات بيانية ، يجده يكرر هذا القول كثيرًا ، ويجعل منه قاعدة ثابتة يخضع لها كثيرًا من آيات القرآن الكريم ؛ من ذلك حين سئل عن ( الآية التي استعصت عليه ، ووقف عليها طويلاً ، لاستكشاف اللمسات البيانية فيها ) ، فأجاب بقوله :
(( أكثر من آية في الحقيقة .. آية ذكرتها استغرقت حوالي ستة أشهر ، وآية استغرقت أكثر من هذا بكثير . ذكرت مرة آية :( فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) استوقفتني أكثر من سنة . وآية أخرى استغرقت ستة أشهر :
( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (20) ( القمر ) ، و( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (7) ( الحاقة ) .
لماذا واحدة بالتذكير ، والثانية بالتأنيث ، مع أن كلاهما وصف للنخل ؟
( أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) يصف النخل .
و( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) يصف النخل ،
فلماذا جاءت مرة بالتأنيث ، ومرة بالتذكير ؟ استغرقتني هذه ستة أشهر .
المفسرين حسب ما اطلعت عليه يقولون الآيات لأن الآية في سورة الحاقة ( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) ما قبلها وما بعدها هي هكذا . والثانية في سورة القمر ( قعر – منقعر ) تسير على الفاصلة القرآنية .
لكني لم أكن مقتنعًا بهذا التخريج ، فبدأت أفكر لماذا هذا الشيء ؟ لأني أعتقد أن خواتيم الآيات ليست فقط مناسبة لما قبلها وما بعدها . وإنما هنالك قطعاً علاقة بالمعنى . ثم ربنا سبحانه وتعالى بعد التأمل والتدبر . نحن لدينا قاعدة كنت غافلاً عنها :
( أن التأنيث يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) .
ربنا قال : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ) (30) (يوسف) . قال :( قال ) . لكن قال : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ ) لأن النسوة قليل ، والأعراب كثير ، هذا في القرآن كثير . فالتأنيث يفيد الكثرة )) .
ومن ذلك قوله في لمسة أخرى من لمساته : (( الجمع الذي ليس له مفرد من نوعه يمكن معاملته معاملة المذكر والمؤنث . والتذكير يدلّ على القلة :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، والتأنيث يدل على الكثرة ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، وهكذا في القرآن كله ؛ كما في قوله تعالى :﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم ﴾ المجتمعات أكثر من ( جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) )) .
ثانيًا- والحقيقة أنني أصاب بالدهشة ويتملكني العجب كلما قرأت لهذا الرجل ، أو سمعته يتكلم بمثل هذا الكلام الذي لا حقيقة له ولا وزن ، وأحاول جاهدًا أن أكظم غيظي ، وأستغفر ربي . ولولا أن الأمر يتعلق بكلام الله جل وعلا ، لما استحق هذا الرجل مني أن أرد على كلامه ، وأكشف عن أخطائه في تأويل آيات القرآن . ولست أدري كيف تخفى أخطاؤه عن الخاصة من أهل العلم ، فيشيدون بأقواله ويثنون عليها بثناء منقطع النظير ، حتى كتب أحدهم في موقع ملتقى أهل التفسير تحت عنوان ( الدكتور فاضل السامرائي- إبداع بلا حدود ) ؟! وأتساءل بيني ، وبين نفسي : أليس من هؤلاء رجل رشيد يميز بين الخطأ والصواب ويعرف الغث من السمين ؟ ومتى كان الإنسان يمدح على أخطائه ، وهي أظهر من أن يشار إليها بالبنان ؛ إلا على من طمس الله على بصيرته ، فرأى الخطأ صوابًا وإبداعًا بلا حدود ، ورأى الكشف عن الخطأ مسبَّة وشتيمة للمخطئ ؟
أنا لا ألوم العامة من الناس ؛ لأنهم لا علم لهم بما يقول هذا الرجل ؛ ولكن ألوم المثقفين منهم ، وبخاصة أولئك الذين يحملون شهادات في التفسير وعلوم القرآن ، وبالأخص الدعاة منهم ، وأذكر أن شيخًا محترمًا من هؤلاء كان قد وجَّه إليَّ سؤالاً ، فأجبته عنه ، وذكر في رسالته أنه يستفيد كثيرًا مما في موقعي ( أسرار الإعجاز البياني للقرآن ) من آراء ، ويضمنها خطبه ودعواته ، وسألني مرة السؤال الآتي :( أي من المفسرين عني بجانب الإعجاز البياني للقرآن على غيره من جوانب الإعجاز؟ وهل لكم مؤلفات في هذا الشأن ؟ أرجو الإفادة ، ولا حرمنا الله من علمكم ) ، وكان مما ذكرته له في جوابي ( لمسات بيانية ) للدكتور السامرائي ، وقلت له : وإن كنت أرى أنها لمسات ضبابية ، وهذا رأيي فيها ، وأحتفظ به لنفسي . فأرسل متعجبًا من وصفي لها بالضبابية ، كيف وهي عنده يستفيد منها ؟ وطلب مني التوضيح مع الدليل ، فأرسلت إليه بعض الأدلة ، ولم أسمع صوته بعدها أبدًا ، وكان أول مقال أنشره في هذا الموقع بعد سؤاله ذلك كدليل على ما أقول ( أعجاز نخل منقعر ) .. وبعد أيام قليلة من نشر هذا المقال أرسل إلي أحدهم يقول لي :( أنصحك بتقوى الله ، وعدم سب العلماء ) ، لم يهن على هذا المعجب أن أكشف له ولغيره القناع عن أخطاء قاتلة في تفسير آيات القرآن الكريم ، كنت قد سكت عنها طويلاً ، فاتهمني هذا الغيور على العلماء بسبهم ، ولم تحرك فيه غيرته شيئًا على كلام الله الذي يفسَّر خطأ ممن يسميه عالمًا . لقد أصبح السكوت عن أخطاء ما يسمون علماء احترامًا ومدحًا لهم ، وأصبح الكشف عن أخطائهم سبًَّا وشتمًا لهم .. فالويل كل الويل لأمة ضحكت من جهلها الأمم .
ثالثًا- وأعود بعد هذا الاستطراد الذي كان لا بد منه إلى أقوال السامرائي التي تقدم ذكرها ؛ لنرى معًا إن كانت تدل على إبداع هذا الرجل الذي لا حدود له ، أم تدل على جهل لا حدود له منقطع النظير ، فأقول بعون الله وتوفيقه لمن يفضل النور على الظلام ، والهدى على الضلالة . وأما أولئك الذين تعودوا العيش في الظلام ورأوا الخطأ صوابًا والكشف عنه سبًّا وشتمًا ، فلا شأن لي معهم ، وكلامي ليس موجهًا إليهم ، كل ما يهمني هو أولئك الشباب المسلم المتعطش للعلم والمعرفة أن ألا ينخدع بالمظاهر البراقة ، ويعرف ما الخطأ وما الصواب .. أقول لهؤلاء :
1- قول الدكتور السامرائي :( قوله تعالى :( وَقَالَ نِسْوَةٌ ) بتذكير الفعل يفيد القلة ، وأن قوله تعالى :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ ) بتأنيث الفعل يفيد الكثرة ) ، قد أجبت عنه في مقالي : ( وقال نسوة في المدينة ) .
2- أما قوله : وصف ( أَعْجَازُ نَخْلٍ ) بالتذكر ( مُّنقَعِرٍ ) يفيد القلة ، ووصفها بالتأنيث ( خاوية ) يفيد الكثرة ، فإعجاز النخل الخاوية أكثر من المنقعرة ، هذه الآية التي استغرقته ستة أشهر ، ثم تذكر قاعدة كان غافلاً عنها ، فقد أجبت عنه في مقالي ( أعجاز نخل منقعر ) .
3- بقي قوله هنا : ( وقد يكون التأنيث للكثرة ، والتذكير للقلة .. فنقول : إن هذا الأمر جائز من حيث الجواز اللغوي ، وليس في هذا شيء ؛ لكن السؤال يبقى : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ونأخذ قوله تعالى ﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾(البقرة: 87) بتذكير فعل ( جاءكم ) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾(الأعراف: 43) بتأنيث فعل ( جاءت ) .
ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ، فجاء بالفعل مؤنّثًا للدلالة على الكثرة . أما في الآية الأولى فالخطاب لبني إسرائيل ، ولزمرة منهم ، وفي حالة معينة أيضًا ، وهذا يدل على القلة ، فجاء بالفعل مذكّرًا ) .
وأول خطأ ظاهر للعيان في هذا القول للسامرائي هو : قياسه قول الله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ على قوله عز وجل :﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾ ، وهو قياس من أفسد الأقيسة ، لا يمكن أن يقول به أحد ، فضلاً عن كون القائل عالمًا يتحدث عن لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ؛ إذ كيف لعاقل أن يقيس ( رسل ) وهم جمع ، على ( رسول ) وهو مفرد ، ثم يتبعه بخطأ آخر أكبر منه وأشنع ، وهو زعمه أن تأنيث الفعل مع ( رسل ) يفيد الكثرة ، وتذكيره مع ( رسول ) يفيد القلة ؟
ألا يعلم هذا الرجل أن لفظ ( رسول ) مفرد مذكر ، وتذكير الفعل معه واجب غصبًا عني وعنه ؟ هل وجد أحد اسمًا مفردًا مذكرًا جاء معه الفعل المسند إليه مؤنَّثًا ؟ وهل سمع أحد أعجميًا فضلاً عن عربي يقول : ( جاءت رسول ) ؟ لو وجد مثل هذا التعبير في لغة ما ، ثم جاء الفعل بالتذكير في لغة أخرى ، لأمكن إجراء القياس بينهما ، فيقال حينئذ : لم جاء الفعل مع ( رسول ) الأول مذكرًا ، وجاء مع ( رسول ) الثاني مؤنَّثًا ؟ وأما أن يقال : جاء الفعل مع ( رسول ) بالتذكير ؛ ليفيد القلة ، فهذا مما لا ينبغي أن يقال ؛ لأنه يدل على جهل القائل ، واستخفاف بعقل المستمع من إنسان خلق الناس منه أسطورة ، فإن لم يدل على ذلك ، فعلام يدل إذًا ؟
لو كان هذا القول قد صدر منه لأول مرة ، لالتمسنا له العذر ، ولقلنا : إنه خطأ منه غير مقصود ؛ ولكنه قد تكرر ذلك منه ؛ وذلك حين زعم أن لفظ ( معدودة ) في قوله تعالى :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ جمع كثرة يدل على أن الأيام أكثر منها في قوله تعالى :﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ ، فقال في ذلك ما نصُّه : ( معدودات : جمع قلّة ، وهي تفيد القلّة . أما معدودة فهي جمع كثرة ، وهي أكثر من معدودات ) . يقول هذا القول ، وأمامه قول الله عز وجل :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾(يوسف: 20) ، ألم يقرأ هذه الآية ، أم أنه قرأها ؛ ولكنه لا يعلم أن الدراهم المعدودة هي ثمن بخس ، فزعم أن ( معدودة ) جمع كثرة ؟ فأي عالم هذا الذي يشهد له الناس كلهم بسعة علمه يقول : ( معدودة ) جمع كثرة ، وهي مفرد ( معدودات ) ؟ انظر تفصيل ذلك في مقال ( الأيام المعدودة والمعدودات ) .
ومن أقواله التي هي أشبه بالنكت قوله وهو يعلل لمجيء ( لا ) في قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ : ( والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر دخول لا النافية على فعل القسم ) .. وقوله أيضًا وهو يعلل لمجيء فعل السجود بالتذكير في قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾(ص: 73) : ( كل فعل عبادة يأتي بالتذكير .. لأن المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( تذكير الفعل وتأنيثه مع الملائكة ) .. وقوله وهو يعلل لإغلاق النار أبوابها : ( أبواب النار مغلقة حتى لا تتبدد الحرارة ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر دخول الواو على جواب حتى إذا ) .
ومن أقواله الطريفة التي سمعتها منه في أول حلقة له في برنامج ( لمسات بيانية ) ، وكان يديره الشيخ مظهر قيمة باسم ( قول معروف ) ، وكان حديث الحلقة عن الفرق في النفي بين ( ما ) ، و( لا ) في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾(يونس: 61) ، وقوله تعالى :﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3) ، فأجاب بكلام لا يمكن للسامع أن يفهم منه شيئًا ، فكتبت إليه أبين له أخطاءه بعد أن أجريت اتصالاً مع الشيخ مظهر ، وكنت يومها في الإمارات ، ومن الفروق التي ذكرتها له بين ( ما ) ، و( لا ) :« أن ( لا ) ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها ، وتكون جوابًا عن استفهام ، وتحذَف الجمل بعدها كثيرًا . يقال :( هل جاء زيد ) ؟ فتجيب بقولك :( لا ) . والأصل : ( لا ، لم يجىء ) ، فتذكر أداة النفي مستغنيًا بها عن الفعل . أما ( ما ) فتكون جوابًا عن دعوى ، يقال :( فلان يقول كذا ) . أي : يدِّعي أنه يقول كذا ، فيكون الجواب : ( ما يقول ) . ولا يجوز أن تجيب بقولك : ( لا يقول ) » .. وما كنت يومها أتوقع أبدًا ألا يفهم الدكتور السامرائي هذا القول ، وهو قول الشيخ السهيلي رحمه الله ، وفوجئت عندما رأيته يقرأ هذا الكلام ، ثم يتوقف عن القراءة قبل أن يكمل السطر الأول ؛ ليقول في مكابرة : ( هذا الكلام غير دقيق .. كيف تكون ( لا ) جوابًا عن استفهام ، وهي نافيه ؟ ) ، فحمدت الله أنني ما ظلمته ، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾ .. انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر النفي بما ، ولا ) .
أما قوله هنا : ( ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ) فهذا القول صحيح ، فقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ يدل على كثرة الرسل فعلاً ؛ ولكن تعليله لهذه الكثرة بمجيء الفعل بالتأنيث ليس صحيحًا ، ثم ادعاؤه بقوله : ( وهذا في القرآن كثير ) ، وقوله : ( وهكذا في القرآن كله ) ادعاء باطل ، لا ينبغي لعالم أن يقع في مثله ، وهو قول يدل دلالة واضحة على أن صاحبه لا يقرأ القرآن أبدًا ، ولا يعرف شيئًا عن آياته ، لا قراءة ولا تلاوة ؛ وإلا ، فكيف يفسر لنا فضيلته قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى ﴾(هود: 69) .
﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ﴾(هود: 77) ؟
أيقول : عدد الرسل هنا كثير لمجيء الفعل مؤنَّثًا ؛ كما قال في قوله السابق ، أم يخترع لنا قاعدة أخرى يعلل بها مجيء الرسل هنا قلة ؟ قال الرازي عند تفسير الآية الأولى : « ولفظ ( رُسُلُنَا ) جمع ، وأقله ثلاثة ؛ فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة ، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر . وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ، ثم اختلفت الروايات فقيل : أتاه جبريل عليه السلام ، ومعه اثنا عشر ملكًا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن ، وقال الضحاك : كانوا تسعة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل عليهم السلام » .
ثم قال الرازي في الآية الثانية :« وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ، وبين القريتين أربع فراسخ ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم ، وكانوا في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله » .
وتأمل بعد ذلك قول الله تعالى في هاتين الآيتين :
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾(آل عمران: 184) .
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾(فاطر: 4) .
كيف جاء الفعل بالتذكير مع ( رسل ) في الآية الأولى ﴿ كُذِّبَ رُسُلٌ ﴾ ، وجاء بالتأنيث في الآية الثانية ﴿ كُذِّبَتْ رُسُلٌ ﴾ ؟ فكيف يفسر لنا فضيلته تذكير الفعل في الأولى ، وتأنيثه في الثانية ، والرسل في الآيتين هم الرسل ، لا يزيدون ولا ينقصون ، والمفسرون يقولون :« رسل عظام ذوو عدد كثير » ؟
ثم تأمل قول الله تعالى في هاتين الآيتين :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾(الأنعام: 130) .
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾(الأعراف: 37 ) .
تجد كيف جاء الفعل مع ( رسل ) بالتذكير في الآية الأولى ﴿ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ ﴾ ، وهم كثير لا يحصون عدًّا ، وجاء بالتأنيث في الآية الثانية ﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا ﴾ ، وهم قليل جدًّا ؛ لأن المراد منهم : ملك الموت وأعوانه ، بدليل قوله تعالى :﴿ يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾ .
فكيف يزعم زاعمٌ ، ويدعي مدَّعٍ بعد هذه الشواهد كلها أن تذكير الفعل مع ( رسل ) يدل على القلة ، وتأنيثه يدل على الكثرة ، ثم يقول : ( وهذا في القرآن كثير ) ، ( وهكذا في القرآن كله ) ؟ ولمَ لا يزعم ذلك ويدعيه ، وهو يعلم أنه لا يراجعه فيما يدعيه ويزعمه أحد ، ولا يشك في قوله أحد ؛ لأنه لا علم لديهم بما يقول ؟ وهذه هي الطامَّة الكبرى ، والمصيبة العظمى أن يستخف رجل بعقول الناس ، فيصدقونه ويصفقون له ويهللون .
رابعًا- أما الجواب عن ذلك كله :
1- رُسُلٌ بضمتين ، ورُسْلٌ بضمة فسكون ، جمع : رسول ، وتسكين وسطه لغة ، ويقال للقليل والكثير ، واشتقاقه من ( الرَّسْل ) ، بفتح الراء وتسكين السين . قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :« أصلُ الرَّسْل : الانبعاثُ على التُّؤّدَة ، ويقال ناقة رَسْلَة : سهلة السير . وإبل مَراسيل : منبعثة انبعاثًا سهلاً ؛ ومنه الرسول المنبعث . وتُصُوِّر منه تارة الرِّفقُ ، فقيل : على رِسْلِك ، إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانْبِعاثُ ، فاشتُقَّ منه الرسول » . قال تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾(الجمعة: 2) .
ويقال ( الرسول ) تارة للقول المتحمَّل ، أو الرسالة ، ويقال تارة أخرى لمتحمِّل القول والرسالة ، وهو المُرْسَل . والرسول بمعنى ( الرسالة ) يُؤنَّث ويُذكَّر ، فمن أنَّثَ جمعه على ( أَرْسُل ) ، قال ابن جني :« أرْسُلٌ ، جمعُ : رسول ، والقياس : رُسُلٌ ؛ إلا أنه لما أراد بالرُسُل هنا النساء ، كسَّره تكسير المؤنَّث » . والرسول بمعنى ( المُرسَل ) يقال للواحد والمثنى والجمع ، والمذكَّر والمؤنَّث . قال تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾(التوبة128) ، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الزخرف: 46) .
وقال تعالى لموسى وأخيه :﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الشعراء: 16) ، ولم يقل لهما :( فَقُولا إِنَّا رُسُلُ رَبِّ العالمين ) ؛ لأن ( فَعولاً وفَعيلاً ) يستوي فيهما المذكَّر والمؤنَّث ، والواحد والجمع ؛ مثل : عَدُوٍّ وصَديقٍ .
و( رُسُلٌ ) الله تعالى ، تارة يراد بها الملائكة ، وتارة يراد بها الأنبياء . قال تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾(الحج: 75) . فمن الملائكة قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾(هود: 81) ، ومن الأنبياء قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾(الأعراف: 43) .
وقوله تعالى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾(الأنعام: 48) فمحمول على رسله من الملائكة والإنس . وأما قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾(المؤمنون: 51) فقيل : عنى به الرسولَ وصفوةَ أصحابه ، فسماهم رسلاً ؛ لضمِّهم إليه ؛ كتسميتهم المُهلَّب وأولاده : المَهَالبة .
2- إذا عرفت هذا ، فاعلم أن لفظ ( رُسُل ) جمع تكسير لـ( رسول ) . وكل جمع تكسير ، للناس وسائر الحيوان الناطق ، يجوز تذكير الفعل معه ، وتأنيثه ؛ مثل :( الملوك ، والقضاة ، والرجال ، والملائكة ، والرسل ) ؛ فإن جمعته بـ( الياء والواو ) ، لم يجز في فعله غير التذكير ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ﴾(الحجر: 61) ، ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾(يس: 13) ، ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾(يس: 52) .
و( المرسلون ) صفة لـ( الرسل ) ، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المرسلين جمع : مرسل . أما الرسل فجمع : رسول .
الثاني : أن المرسلين لا يجوز في فعله غير التذكير . أما الرسل فيجوز في فعله التذكير والتأنيث .
الثالث : أن المرسلين جمع سالم يدل على القلة . أما الرسل فجمع تكسير يدل على الكثرة تارة ، والقلة تارة أخرى .
3- ويبقى السؤال- كما يقول الدكتور السامرائي- قائمًا : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ولكن الجواب عن هذا السؤال ليس كما أجاب به هو عنه ؛ وإنما الجواب أبسط بكثير وألطف من أن يتكلَّف له ذلك التكلُّف ، ويُؤتَى بقاعدة لا أساس لها من الصحة ، وهو ما أجبنا به عن سبب تذكير الفعل تارة ، وتأنيثه تارة أخرى مع لفظ ( الملائكة ) ، ولفظ ( الأعراب ) ، فهذه الألفاظ الثلاثة ( الأعراب ، الملائكة ، الرسل ) تنتظم في سلك واحد ، تحت مسمًّى واحد ، هو ( جمع التكسير ) لمذكر عاقل .
فإذا كان المراد تعلق الفعل بذوات الرسل ، جيء به مذكَّرًا ؛ لأن لفظ ( رسل ) جمع لمذكر عاقل ، وهو ( رسول ) ، ففي هذه الحالة يعامل الجمع معاملة المفرد ؛ لأنه بمنزلته ، فيذكَّر الفعل معه ؛ كما يذكَّر مع مفرده ، وعلى هذا ورد قوله تعالى إضافة إلى الأمثلة التي ذكرناها :
﴿ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ﴾(آل عمران: 183) .
﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ ﴾(يوسف: 110) .
﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾(الزمر: 71) .
وإذا كان المراد تعلُّق الفعل بمعنى الجماعة ، جيء به مؤنَّثًا ؛ لأن لفظ ( رسل ) جمع تكسير ، وجمع التكسير مؤنث ، وتأنيثه غير حقيقي ، وعلى هذا ورد قوله تعالى ، إضافة إلى ما تقدم من أمثلة :
﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾(الأعراف: 101) .
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾(يونس: 13) .
﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ ﴾(غافر: 83) .
وكأنه قيل : جاءتهم جماعة رسلهم .. ولهذا إذا تأخر الفعل عن ( الرسل ) ، جاز فيه التذكير حملاً على اللفظ ، وجاز فيه التأنيث حملاً على معنى الجماعة ؛ ومن الأول قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾(المؤمنون: 51) ، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ﴾(يوسف: 110) ، ومن الثاني قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾(الأعراف: 37 ) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴾(المرسلات: 11) .
ونلاحظ مما تقدم أن تذكير الفعل أو تأنيثه مع ( رسل ) ، ونحوه مما كان على صيغة جمع التكسير لمذكر ، لا علاقة له بكثرة ، ولا قلة ، وأن القلة ، والكثرة تفهم من السياق ، وهذا باتفاق المحققين من علماء النحو والتفسير جميعهم . وأما ما أجاب به السامرائي فهو جواب فاسد ، وادعاء باطل ، وهو منقوض بكثير من آيات القرآن ، خلافًا لما زعم . ومن الطريف أن الدكتور السامرائي كان قد قال قبل تأليفه كتاب ( التعبير القرآني ) :
(( ذهبت في عمرة عام ( 1968 ) ، وفي ( 1969 ) ذهبت للحج ، هذه بعد رحلة الإيمان كان عندي معرفة جيدة بالقرآن ؛ ولكن لم يكن عندي علم كبير فيه ، فذهبت إلى زمزم وشربت منها ، وقلت : رب افتح لي في كتابك فتحًا مباركًا ، إنك أنت الفتاح العليم . ماء زمزم لما شُرب له ، فقلت : قال حبيبك محمد هكذا ، فافتح لي في كتابك فتحًا مباركًا . هذه بعد رحلة الإيمان الأولى ، ثم دعوت ربي فقلت : رب افتح لي من خزائن علمك ما تشاء ، ثم جئت إلى الكعبة وتعلقت بأستارها ، وقلت : رب أسألك أن تفتح لي في كتابك فتحًا مباركًا ، إنك أنت الفتاح العليم ، وافتح لي من خزائن علمك فتحًا مباركًا ، وكنت متعلقاً بأستار الكعبة ، وبعدها كنت أرى الأمر ، وكأنه بدأ يتيسر.. سبحان الله ، ويبدو- والله أعلم- أن الدعوة استجيبت )) ..
وهكذا يزعم أن دعوته قد استجيبت ، وأن الله تعالى قد فتح له من خزائن علمه فتوح العارفين ، كما قالت السيدة سمر الأرناؤوط صاحبة موقع ( لمسات بيانية ) ، فأبدع إبداعًا لا حدود له ، والشاهد على ذلك ما ذكرناه من أقواله التي أبدع فيها إبداعًا منقطع النظير ، وأتى بما لم يستطعه الأوائل .. فسبحان الله العظيم !
وفي الختام أسأله سبحانه أن يرينا الحق حقًّا ، والباطل باطلاً ، وأن يفتح علينا من خزائن علمه فتحًا صحيحًا مباركًا ؛ لكي لا نقول في كلامه إلا صوابًا ، وأن ينوِّر بصائرنا ، ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .. والحمد لله رب العالمين !
سألني أحدهم عن رأيي في قول الدكتور فاضل السامرائي : (( وقد يكون التأنيث للكثرة والتذكير للقلة ، كما في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) ، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾(يوسف: 30) )) .
ثم جوابه عن ذلك بقوله : (( ونقول : إن هذا الأمر جائز من حيث الجواز اللغوي ، وليس في هذا شيء ؛ لكن السؤال يبقى : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ونأخذ قوله تعالى ﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾(البقرة: 87) بتذكير فعل ( جاءكم ) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾(الأعراف: 43) بتأنيث فعل ( جاءت ) . ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ، فجاء بالفعل مؤنّثًا للدلالة على الكثرة . أما في الآية الأولى فالخطاب لبني إسرائيل ، ولزمرة منهم ، وفي حالة معينة أيضًا ، وهذا يدل على القلة ، فجاء بالفعل مذكّرًا )) .
ــــــــــــــــــ
أولاً- هذا القول للدكتور السامرائي جواب منه عن سؤال وجِّه إليه في إحدى لمساته البيانية ، ومن يقرأ للدكتور السامرائي لمساته البيانية ، أو يسمعه وهو يجيب عن أسئلة المشاهدين في برنامج لمسات بيانية ، يجده يكرر هذا القول كثيرًا ، ويجعل منه قاعدة ثابتة يخضع لها كثيرًا من آيات القرآن الكريم ؛ من ذلك حين سئل عن ( الآية التي استعصت عليه ، ووقف عليها طويلاً ، لاستكشاف اللمسات البيانية فيها ) ، فأجاب بقوله :
(( أكثر من آية في الحقيقة .. آية ذكرتها استغرقت حوالي ستة أشهر ، وآية استغرقت أكثر من هذا بكثير . ذكرت مرة آية :( فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) استوقفتني أكثر من سنة . وآية أخرى استغرقت ستة أشهر :
( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (20) ( القمر ) ، و( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (7) ( الحاقة ) .
لماذا واحدة بالتذكير ، والثانية بالتأنيث ، مع أن كلاهما وصف للنخل ؟
( أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) يصف النخل .
و( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) يصف النخل ،
فلماذا جاءت مرة بالتأنيث ، ومرة بالتذكير ؟ استغرقتني هذه ستة أشهر .
المفسرين حسب ما اطلعت عليه يقولون الآيات لأن الآية في سورة الحاقة ( تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) ما قبلها وما بعدها هي هكذا . والثانية في سورة القمر ( قعر – منقعر ) تسير على الفاصلة القرآنية .
لكني لم أكن مقتنعًا بهذا التخريج ، فبدأت أفكر لماذا هذا الشيء ؟ لأني أعتقد أن خواتيم الآيات ليست فقط مناسبة لما قبلها وما بعدها . وإنما هنالك قطعاً علاقة بالمعنى . ثم ربنا سبحانه وتعالى بعد التأمل والتدبر . نحن لدينا قاعدة كنت غافلاً عنها :
( أن التأنيث يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) .
ربنا قال : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ) (30) (يوسف) . قال :( قال ) . لكن قال : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ ) لأن النسوة قليل ، والأعراب كثير ، هذا في القرآن كثير . فالتأنيث يفيد الكثرة )) .
ومن ذلك قوله في لمسة أخرى من لمساته : (( الجمع الذي ليس له مفرد من نوعه يمكن معاملته معاملة المذكر والمؤنث . والتذكير يدلّ على القلة :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، والتأنيث يدل على الكثرة ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، وهكذا في القرآن كله ؛ كما في قوله تعالى :﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم ﴾ المجتمعات أكثر من ( جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) )) .
ثانيًا- والحقيقة أنني أصاب بالدهشة ويتملكني العجب كلما قرأت لهذا الرجل ، أو سمعته يتكلم بمثل هذا الكلام الذي لا حقيقة له ولا وزن ، وأحاول جاهدًا أن أكظم غيظي ، وأستغفر ربي . ولولا أن الأمر يتعلق بكلام الله جل وعلا ، لما استحق هذا الرجل مني أن أرد على كلامه ، وأكشف عن أخطائه في تأويل آيات القرآن . ولست أدري كيف تخفى أخطاؤه عن الخاصة من أهل العلم ، فيشيدون بأقواله ويثنون عليها بثناء منقطع النظير ، حتى كتب أحدهم في موقع ملتقى أهل التفسير تحت عنوان ( الدكتور فاضل السامرائي- إبداع بلا حدود ) ؟! وأتساءل بيني ، وبين نفسي : أليس من هؤلاء رجل رشيد يميز بين الخطأ والصواب ويعرف الغث من السمين ؟ ومتى كان الإنسان يمدح على أخطائه ، وهي أظهر من أن يشار إليها بالبنان ؛ إلا على من طمس الله على بصيرته ، فرأى الخطأ صوابًا وإبداعًا بلا حدود ، ورأى الكشف عن الخطأ مسبَّة وشتيمة للمخطئ ؟
أنا لا ألوم العامة من الناس ؛ لأنهم لا علم لهم بما يقول هذا الرجل ؛ ولكن ألوم المثقفين منهم ، وبخاصة أولئك الذين يحملون شهادات في التفسير وعلوم القرآن ، وبالأخص الدعاة منهم ، وأذكر أن شيخًا محترمًا من هؤلاء كان قد وجَّه إليَّ سؤالاً ، فأجبته عنه ، وذكر في رسالته أنه يستفيد كثيرًا مما في موقعي ( أسرار الإعجاز البياني للقرآن ) من آراء ، ويضمنها خطبه ودعواته ، وسألني مرة السؤال الآتي :( أي من المفسرين عني بجانب الإعجاز البياني للقرآن على غيره من جوانب الإعجاز؟ وهل لكم مؤلفات في هذا الشأن ؟ أرجو الإفادة ، ولا حرمنا الله من علمكم ) ، وكان مما ذكرته له في جوابي ( لمسات بيانية ) للدكتور السامرائي ، وقلت له : وإن كنت أرى أنها لمسات ضبابية ، وهذا رأيي فيها ، وأحتفظ به لنفسي . فأرسل متعجبًا من وصفي لها بالضبابية ، كيف وهي عنده يستفيد منها ؟ وطلب مني التوضيح مع الدليل ، فأرسلت إليه بعض الأدلة ، ولم أسمع صوته بعدها أبدًا ، وكان أول مقال أنشره في هذا الموقع بعد سؤاله ذلك كدليل على ما أقول ( أعجاز نخل منقعر ) .. وبعد أيام قليلة من نشر هذا المقال أرسل إلي أحدهم يقول لي :( أنصحك بتقوى الله ، وعدم سب العلماء ) ، لم يهن على هذا المعجب أن أكشف له ولغيره القناع عن أخطاء قاتلة في تفسير آيات القرآن الكريم ، كنت قد سكت عنها طويلاً ، فاتهمني هذا الغيور على العلماء بسبهم ، ولم تحرك فيه غيرته شيئًا على كلام الله الذي يفسَّر خطأ ممن يسميه عالمًا . لقد أصبح السكوت عن أخطاء ما يسمون علماء احترامًا ومدحًا لهم ، وأصبح الكشف عن أخطائهم سبًَّا وشتمًا لهم .. فالويل كل الويل لأمة ضحكت من جهلها الأمم .
ثالثًا- وأعود بعد هذا الاستطراد الذي كان لا بد منه إلى أقوال السامرائي التي تقدم ذكرها ؛ لنرى معًا إن كانت تدل على إبداع هذا الرجل الذي لا حدود له ، أم تدل على جهل لا حدود له منقطع النظير ، فأقول بعون الله وتوفيقه لمن يفضل النور على الظلام ، والهدى على الضلالة . وأما أولئك الذين تعودوا العيش في الظلام ورأوا الخطأ صوابًا والكشف عنه سبًّا وشتمًا ، فلا شأن لي معهم ، وكلامي ليس موجهًا إليهم ، كل ما يهمني هو أولئك الشباب المسلم المتعطش للعلم والمعرفة أن ألا ينخدع بالمظاهر البراقة ، ويعرف ما الخطأ وما الصواب .. أقول لهؤلاء :
1- قول الدكتور السامرائي :( قوله تعالى :( وَقَالَ نِسْوَةٌ ) بتذكير الفعل يفيد القلة ، وأن قوله تعالى :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ ) بتأنيث الفعل يفيد الكثرة ) ، قد أجبت عنه في مقالي : ( وقال نسوة في المدينة ) .
2- أما قوله : وصف ( أَعْجَازُ نَخْلٍ ) بالتذكر ( مُّنقَعِرٍ ) يفيد القلة ، ووصفها بالتأنيث ( خاوية ) يفيد الكثرة ، فإعجاز النخل الخاوية أكثر من المنقعرة ، هذه الآية التي استغرقته ستة أشهر ، ثم تذكر قاعدة كان غافلاً عنها ، فقد أجبت عنه في مقالي ( أعجاز نخل منقعر ) .
3- بقي قوله هنا : ( وقد يكون التأنيث للكثرة ، والتذكير للقلة .. فنقول : إن هذا الأمر جائز من حيث الجواز اللغوي ، وليس في هذا شيء ؛ لكن السؤال يبقى : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ونأخذ قوله تعالى ﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾(البقرة: 87) بتذكير فعل ( جاءكم ) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾(الأعراف: 43) بتأنيث فعل ( جاءت ) .
ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ، فجاء بالفعل مؤنّثًا للدلالة على الكثرة . أما في الآية الأولى فالخطاب لبني إسرائيل ، ولزمرة منهم ، وفي حالة معينة أيضًا ، وهذا يدل على القلة ، فجاء بالفعل مذكّرًا ) .
وأول خطأ ظاهر للعيان في هذا القول للسامرائي هو : قياسه قول الله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ على قوله عز وجل :﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾ ، وهو قياس من أفسد الأقيسة ، لا يمكن أن يقول به أحد ، فضلاً عن كون القائل عالمًا يتحدث عن لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ؛ إذ كيف لعاقل أن يقيس ( رسل ) وهم جمع ، على ( رسول ) وهو مفرد ، ثم يتبعه بخطأ آخر أكبر منه وأشنع ، وهو زعمه أن تأنيث الفعل مع ( رسل ) يفيد الكثرة ، وتذكيره مع ( رسول ) يفيد القلة ؟
ألا يعلم هذا الرجل أن لفظ ( رسول ) مفرد مذكر ، وتذكير الفعل معه واجب غصبًا عني وعنه ؟ هل وجد أحد اسمًا مفردًا مذكرًا جاء معه الفعل المسند إليه مؤنَّثًا ؟ وهل سمع أحد أعجميًا فضلاً عن عربي يقول : ( جاءت رسول ) ؟ لو وجد مثل هذا التعبير في لغة ما ، ثم جاء الفعل بالتذكير في لغة أخرى ، لأمكن إجراء القياس بينهما ، فيقال حينئذ : لم جاء الفعل مع ( رسول ) الأول مذكرًا ، وجاء مع ( رسول ) الثاني مؤنَّثًا ؟ وأما أن يقال : جاء الفعل مع ( رسول ) بالتذكير ؛ ليفيد القلة ، فهذا مما لا ينبغي أن يقال ؛ لأنه يدل على جهل القائل ، واستخفاف بعقل المستمع من إنسان خلق الناس منه أسطورة ، فإن لم يدل على ذلك ، فعلام يدل إذًا ؟
لو كان هذا القول قد صدر منه لأول مرة ، لالتمسنا له العذر ، ولقلنا : إنه خطأ منه غير مقصود ؛ ولكنه قد تكرر ذلك منه ؛ وذلك حين زعم أن لفظ ( معدودة ) في قوله تعالى :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ جمع كثرة يدل على أن الأيام أكثر منها في قوله تعالى :﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ ، فقال في ذلك ما نصُّه : ( معدودات : جمع قلّة ، وهي تفيد القلّة . أما معدودة فهي جمع كثرة ، وهي أكثر من معدودات ) . يقول هذا القول ، وأمامه قول الله عز وجل :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾(يوسف: 20) ، ألم يقرأ هذه الآية ، أم أنه قرأها ؛ ولكنه لا يعلم أن الدراهم المعدودة هي ثمن بخس ، فزعم أن ( معدودة ) جمع كثرة ؟ فأي عالم هذا الذي يشهد له الناس كلهم بسعة علمه يقول : ( معدودة ) جمع كثرة ، وهي مفرد ( معدودات ) ؟ انظر تفصيل ذلك في مقال ( الأيام المعدودة والمعدودات ) .
ومن أقواله التي هي أشبه بالنكت قوله وهو يعلل لمجيء ( لا ) في قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ : ( والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر دخول لا النافية على فعل القسم ) .. وقوله أيضًا وهو يعلل لمجيء فعل السجود بالتذكير في قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾(ص: 73) : ( كل فعل عبادة يأتي بالتذكير .. لأن المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( تذكير الفعل وتأنيثه مع الملائكة ) .. وقوله وهو يعلل لإغلاق النار أبوابها : ( أبواب النار مغلقة حتى لا تتبدد الحرارة ) . انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر دخول الواو على جواب حتى إذا ) .
ومن أقواله الطريفة التي سمعتها منه في أول حلقة له في برنامج ( لمسات بيانية ) ، وكان يديره الشيخ مظهر قيمة باسم ( قول معروف ) ، وكان حديث الحلقة عن الفرق في النفي بين ( ما ) ، و( لا ) في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾(يونس: 61) ، وقوله تعالى :﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3) ، فأجاب بكلام لا يمكن للسامع أن يفهم منه شيئًا ، فكتبت إليه أبين له أخطاءه بعد أن أجريت اتصالاً مع الشيخ مظهر ، وكنت يومها في الإمارات ، ومن الفروق التي ذكرتها له بين ( ما ) ، و( لا ) :« أن ( لا ) ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها ، وتكون جوابًا عن استفهام ، وتحذَف الجمل بعدها كثيرًا . يقال :( هل جاء زيد ) ؟ فتجيب بقولك :( لا ) . والأصل : ( لا ، لم يجىء ) ، فتذكر أداة النفي مستغنيًا بها عن الفعل . أما ( ما ) فتكون جوابًا عن دعوى ، يقال :( فلان يقول كذا ) . أي : يدِّعي أنه يقول كذا ، فيكون الجواب : ( ما يقول ) . ولا يجوز أن تجيب بقولك : ( لا يقول ) » .. وما كنت يومها أتوقع أبدًا ألا يفهم الدكتور السامرائي هذا القول ، وهو قول الشيخ السهيلي رحمه الله ، وفوجئت عندما رأيته يقرأ هذا الكلام ، ثم يتوقف عن القراءة قبل أن يكمل السطر الأول ؛ ليقول في مكابرة : ( هذا الكلام غير دقيق .. كيف تكون ( لا ) جوابًا عن استفهام ، وهي نافيه ؟ ) ، فحمدت الله أنني ما ظلمته ، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾ .. انظر تفصيل ذلك في مقال ( سر النفي بما ، ولا ) .
أما قوله هنا : ( ونلاحظ أنه في الآية الثانية كان الكلام عن جميع الرسل في جميع الأمم ، من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وهذا يدل على الكثرة ) فهذا القول صحيح ، فقوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ يدل على كثرة الرسل فعلاً ؛ ولكن تعليله لهذه الكثرة بمجيء الفعل بالتأنيث ليس صحيحًا ، ثم ادعاؤه بقوله : ( وهذا في القرآن كثير ) ، وقوله : ( وهكذا في القرآن كله ) ادعاء باطل ، لا ينبغي لعالم أن يقع في مثله ، وهو قول يدل دلالة واضحة على أن صاحبه لا يقرأ القرآن أبدًا ، ولا يعرف شيئًا عن آياته ، لا قراءة ولا تلاوة ؛ وإلا ، فكيف يفسر لنا فضيلته قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى ﴾(هود: 69) .
﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ﴾(هود: 77) ؟
أيقول : عدد الرسل هنا كثير لمجيء الفعل مؤنَّثًا ؛ كما قال في قوله السابق ، أم يخترع لنا قاعدة أخرى يعلل بها مجيء الرسل هنا قلة ؟ قال الرازي عند تفسير الآية الأولى : « ولفظ ( رُسُلُنَا ) جمع ، وأقله ثلاثة ؛ فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة ، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر . وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ، ثم اختلفت الروايات فقيل : أتاه جبريل عليه السلام ، ومعه اثنا عشر ملكًا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن ، وقال الضحاك : كانوا تسعة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل عليهم السلام » .
ثم قال الرازي في الآية الثانية :« وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ، وبين القريتين أربع فراسخ ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم ، وكانوا في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله » .
وتأمل بعد ذلك قول الله تعالى في هاتين الآيتين :
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾(آل عمران: 184) .
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾(فاطر: 4) .
كيف جاء الفعل بالتذكير مع ( رسل ) في الآية الأولى ﴿ كُذِّبَ رُسُلٌ ﴾ ، وجاء بالتأنيث في الآية الثانية ﴿ كُذِّبَتْ رُسُلٌ ﴾ ؟ فكيف يفسر لنا فضيلته تذكير الفعل في الأولى ، وتأنيثه في الثانية ، والرسل في الآيتين هم الرسل ، لا يزيدون ولا ينقصون ، والمفسرون يقولون :« رسل عظام ذوو عدد كثير » ؟
ثم تأمل قول الله تعالى في هاتين الآيتين :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾(الأنعام: 130) .
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾(الأعراف: 37 ) .
تجد كيف جاء الفعل مع ( رسل ) بالتذكير في الآية الأولى ﴿ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ ﴾ ، وهم كثير لا يحصون عدًّا ، وجاء بالتأنيث في الآية الثانية ﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا ﴾ ، وهم قليل جدًّا ؛ لأن المراد منهم : ملك الموت وأعوانه ، بدليل قوله تعالى :﴿ يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾ .
فكيف يزعم زاعمٌ ، ويدعي مدَّعٍ بعد هذه الشواهد كلها أن تذكير الفعل مع ( رسل ) يدل على القلة ، وتأنيثه يدل على الكثرة ، ثم يقول : ( وهذا في القرآن كثير ) ، ( وهكذا في القرآن كله ) ؟ ولمَ لا يزعم ذلك ويدعيه ، وهو يعلم أنه لا يراجعه فيما يدعيه ويزعمه أحد ، ولا يشك في قوله أحد ؛ لأنه لا علم لديهم بما يقول ؟ وهذه هي الطامَّة الكبرى ، والمصيبة العظمى أن يستخف رجل بعقول الناس ، فيصدقونه ويصفقون له ويهللون .
رابعًا- أما الجواب عن ذلك كله :
1- رُسُلٌ بضمتين ، ورُسْلٌ بضمة فسكون ، جمع : رسول ، وتسكين وسطه لغة ، ويقال للقليل والكثير ، واشتقاقه من ( الرَّسْل ) ، بفتح الراء وتسكين السين . قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :« أصلُ الرَّسْل : الانبعاثُ على التُّؤّدَة ، ويقال ناقة رَسْلَة : سهلة السير . وإبل مَراسيل : منبعثة انبعاثًا سهلاً ؛ ومنه الرسول المنبعث . وتُصُوِّر منه تارة الرِّفقُ ، فقيل : على رِسْلِك ، إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانْبِعاثُ ، فاشتُقَّ منه الرسول » . قال تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾(الجمعة: 2) .
ويقال ( الرسول ) تارة للقول المتحمَّل ، أو الرسالة ، ويقال تارة أخرى لمتحمِّل القول والرسالة ، وهو المُرْسَل . والرسول بمعنى ( الرسالة ) يُؤنَّث ويُذكَّر ، فمن أنَّثَ جمعه على ( أَرْسُل ) ، قال ابن جني :« أرْسُلٌ ، جمعُ : رسول ، والقياس : رُسُلٌ ؛ إلا أنه لما أراد بالرُسُل هنا النساء ، كسَّره تكسير المؤنَّث » . والرسول بمعنى ( المُرسَل ) يقال للواحد والمثنى والجمع ، والمذكَّر والمؤنَّث . قال تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾(التوبة128) ، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الزخرف: 46) .
وقال تعالى لموسى وأخيه :﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الشعراء: 16) ، ولم يقل لهما :( فَقُولا إِنَّا رُسُلُ رَبِّ العالمين ) ؛ لأن ( فَعولاً وفَعيلاً ) يستوي فيهما المذكَّر والمؤنَّث ، والواحد والجمع ؛ مثل : عَدُوٍّ وصَديقٍ .
و( رُسُلٌ ) الله تعالى ، تارة يراد بها الملائكة ، وتارة يراد بها الأنبياء . قال تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾(الحج: 75) . فمن الملائكة قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾(هود: 81) ، ومن الأنبياء قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾(الأعراف: 43) .
وقوله تعالى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾(الأنعام: 48) فمحمول على رسله من الملائكة والإنس . وأما قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾(المؤمنون: 51) فقيل : عنى به الرسولَ وصفوةَ أصحابه ، فسماهم رسلاً ؛ لضمِّهم إليه ؛ كتسميتهم المُهلَّب وأولاده : المَهَالبة .
2- إذا عرفت هذا ، فاعلم أن لفظ ( رُسُل ) جمع تكسير لـ( رسول ) . وكل جمع تكسير ، للناس وسائر الحيوان الناطق ، يجوز تذكير الفعل معه ، وتأنيثه ؛ مثل :( الملوك ، والقضاة ، والرجال ، والملائكة ، والرسل ) ؛ فإن جمعته بـ( الياء والواو ) ، لم يجز في فعله غير التذكير ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ﴾(الحجر: 61) ، ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾(يس: 13) ، ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾(يس: 52) .
و( المرسلون ) صفة لـ( الرسل ) ، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المرسلين جمع : مرسل . أما الرسل فجمع : رسول .
الثاني : أن المرسلين لا يجوز في فعله غير التذكير . أما الرسل فيجوز في فعله التذكير والتأنيث .
الثالث : أن المرسلين جمع سالم يدل على القلة . أما الرسل فجمع تكسير يدل على الكثرة تارة ، والقلة تارة أخرى .
3- ويبقى السؤال- كما يقول الدكتور السامرائي- قائمًا : لماذا اختار تعالى التذكير في موضع ، والتأنيث في موضع آخر ؟ ولكن الجواب عن هذا السؤال ليس كما أجاب به هو عنه ؛ وإنما الجواب أبسط بكثير وألطف من أن يتكلَّف له ذلك التكلُّف ، ويُؤتَى بقاعدة لا أساس لها من الصحة ، وهو ما أجبنا به عن سبب تذكير الفعل تارة ، وتأنيثه تارة أخرى مع لفظ ( الملائكة ) ، ولفظ ( الأعراب ) ، فهذه الألفاظ الثلاثة ( الأعراب ، الملائكة ، الرسل ) تنتظم في سلك واحد ، تحت مسمًّى واحد ، هو ( جمع التكسير ) لمذكر عاقل .
فإذا كان المراد تعلق الفعل بذوات الرسل ، جيء به مذكَّرًا ؛ لأن لفظ ( رسل ) جمع لمذكر عاقل ، وهو ( رسول ) ، ففي هذه الحالة يعامل الجمع معاملة المفرد ؛ لأنه بمنزلته ، فيذكَّر الفعل معه ؛ كما يذكَّر مع مفرده ، وعلى هذا ورد قوله تعالى إضافة إلى الأمثلة التي ذكرناها :
﴿ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ﴾(آل عمران: 183) .
﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ ﴾(يوسف: 110) .
﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾(الزمر: 71) .
وإذا كان المراد تعلُّق الفعل بمعنى الجماعة ، جيء به مؤنَّثًا ؛ لأن لفظ ( رسل ) جمع تكسير ، وجمع التكسير مؤنث ، وتأنيثه غير حقيقي ، وعلى هذا ورد قوله تعالى ، إضافة إلى ما تقدم من أمثلة :
﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾(الأعراف: 101) .
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾(يونس: 13) .
﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ ﴾(غافر: 83) .
وكأنه قيل : جاءتهم جماعة رسلهم .. ولهذا إذا تأخر الفعل عن ( الرسل ) ، جاز فيه التذكير حملاً على اللفظ ، وجاز فيه التأنيث حملاً على معنى الجماعة ؛ ومن الأول قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾(المؤمنون: 51) ، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ﴾(يوسف: 110) ، ومن الثاني قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾(الأعراف: 37 ) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴾(المرسلات: 11) .
ونلاحظ مما تقدم أن تذكير الفعل أو تأنيثه مع ( رسل ) ، ونحوه مما كان على صيغة جمع التكسير لمذكر ، لا علاقة له بكثرة ، ولا قلة ، وأن القلة ، والكثرة تفهم من السياق ، وهذا باتفاق المحققين من علماء النحو والتفسير جميعهم . وأما ما أجاب به السامرائي فهو جواب فاسد ، وادعاء باطل ، وهو منقوض بكثير من آيات القرآن ، خلافًا لما زعم . ومن الطريف أن الدكتور السامرائي كان قد قال قبل تأليفه كتاب ( التعبير القرآني ) :
(( ذهبت في عمرة عام ( 1968 ) ، وفي ( 1969 ) ذهبت للحج ، هذه بعد رحلة الإيمان كان عندي معرفة جيدة بالقرآن ؛ ولكن لم يكن عندي علم كبير فيه ، فذهبت إلى زمزم وشربت منها ، وقلت : رب افتح لي في كتابك فتحًا مباركًا ، إنك أنت الفتاح العليم . ماء زمزم لما شُرب له ، فقلت : قال حبيبك محمد هكذا ، فافتح لي في كتابك فتحًا مباركًا . هذه بعد رحلة الإيمان الأولى ، ثم دعوت ربي فقلت : رب افتح لي من خزائن علمك ما تشاء ، ثم جئت إلى الكعبة وتعلقت بأستارها ، وقلت : رب أسألك أن تفتح لي في كتابك فتحًا مباركًا ، إنك أنت الفتاح العليم ، وافتح لي من خزائن علمك فتحًا مباركًا ، وكنت متعلقاً بأستار الكعبة ، وبعدها كنت أرى الأمر ، وكأنه بدأ يتيسر.. سبحان الله ، ويبدو- والله أعلم- أن الدعوة استجيبت )) ..
وهكذا يزعم أن دعوته قد استجيبت ، وأن الله تعالى قد فتح له من خزائن علمه فتوح العارفين ، كما قالت السيدة سمر الأرناؤوط صاحبة موقع ( لمسات بيانية ) ، فأبدع إبداعًا لا حدود له ، والشاهد على ذلك ما ذكرناه من أقواله التي أبدع فيها إبداعًا منقطع النظير ، وأتى بما لم يستطعه الأوائل .. فسبحان الله العظيم !
وفي الختام أسأله سبحانه أن يرينا الحق حقًّا ، والباطل باطلاً ، وأن يفتح علينا من خزائن علمه فتحًا صحيحًا مباركًا ؛ لكي لا نقول في كلامه إلا صوابًا ، وأن ينوِّر بصائرنا ، ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) .. والحمد لله رب العالمين !